- الإعلانات -
عندما تغدو السياسة مجرد قدرة على تبرير الشيء ونقيضه، تنتفي ماهيتها، وتصبح كل شيء، إلا أن تكون سياسةً.
بيد أن السياسةَ، وهي فن تدبير الممكن، ووظيفة النفس العاقلة، تؤسس لشرعية القول بأن امتهان السياسة، هي مهمة العقلاء، لأنها تتطلب حنكة ورجاحة عقل وسرعة بديهة وقدرات خارقة على التكيف مع المستجدات ومجريات الوقائع والأحداث.
كما أن التساؤلَ عن معنى السياسةِ، وجدوائيتِها، سؤالٌ بدون معنىً. لأن جوهرَ السياسةِ معرفةٌ، ورؤىً وتصوراتٍ، اختلافٌ وتداولٌ ، بناءات وحلول وتقاربات.
مناسبة هذا القول، هو التأكيد على أن إعادة التفكير في السياسة، بعيدا عن منطق التعالي والعجرفة، وفي أفق مُتجدِّدٍ، مُنتِجٍ ومُتَحوِّلٍ، يُمكِّن من فتح آفاق رحبة لاعادة تشكيل و تحديد المصالح والمصير المشترك.
تتميز العلاقات السياسية والدبلوماسية للمغرب مع محيطه المغاربي( الجزائر) والأوربي (فرنسا، ألمانيا وإسبانيا)، بأزمات متتالية، على خلفية نزاع الصحراء، تتأرجح بين التوتر والاحتقان والمناورة تارة ، وبين الأزمة المعلنة او الخفية، التي تصل حد إعلان القطيعة أو تجميد كافة أشكال التواصل السياسي والتمثيل الديبلوماسي. بالشكل الذي تحول معه هذا النزاع المفتعل، إلى قلق سياسي لهذه الدول، دفع المغرب ابتداء من 2019، إلى “قلب الطاولة” و إطلاق مرحلة عنوانها الأوحد، احترام سيادته الوطنية، وأمنه القومي، وتأسيس علاقات تعاون يطبعها الاحترام والتفاهم والمصالح المشتركة.
ولكن السؤال المحير والشاق، هو ما الذي تغير على المستوى الجيوسياسي والاستراتيجي، والذي جعل المغرب، يقدم على عدد من الإجراءات الاحتجاجية، ويبدي ما يكفي من الجدية والحزم ويطالب المانيا وإسبانيا وفرنسا بضرورة القطع مع نظرة تقليدية في التعاطي مع قضاياه، واحترام مصالحه الحيوية والعليا، ويجعل المطلب شرطا لعلاقات ثنائية مستقبلية؟
من الراجح أن المتغيرات على المستوى الإقليمي والدولي هي مصدر ذلك الحزم وذلك الانقلاب. إن الاكتشافات النفطية والغازية والمعدنية (الكوبالت)، التي تم الإعلان عنها بالمغرب القاري والبحري، وكذا تغير موقف الإدارة الأمريكية من نزاع الصحراء والتطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني، وتزايد التغلغل التركي والإيراني بالمنطقة المغاربية، إضافة إلى توسُّع الاختراق الصيني للقارة السوداء، ولامريكا اللاتينية، دون أن ننسى إفلاس العقيدة العسكراتية للدولة الجزائرية، وانتكاسة الطرح الانفصال لجبهة البوليساريو ووصوله إلى الباب السدود، مقابل النجاحات التي حققتها الدبلوماسية المغربية في تدبير وتسويق مقترح الحكم الذاتي كحل لملف الصحراء . كلها عوامل عجلت بضرورة تغيير مسارات تطور مجريات الأحداث المتعلقة بمصالح المغرب فيما يتعلق بوحدته الترابية، وكذا بشراكاته مع عدد من دول المنطقة.
والواضح أن المغرب استند في هجومه الديبلوماسي، على مقاربتين هامتين. تمثلت الأولى في ضرورة خلخلة إرث الماضي الاستعماري، والتأكيد على مسؤولية الدول المعنية بالنزاع، مع ضرورة انجاز مراجعة عميقة في هذا الإرث، بغية التخلص من ثِقْلِ وعُقَدِ وسُكُونِ الماضي، والتأشير على نهايتِه لِيَبْلُغَ غايَتِه من خلال تطوره.
فالجزائر ، مدفوعة بِعُقَدِ التاريخ والسياسة والأيديولوجيا المتولدة عن مرحلة النضال من أجل الاستقلال، هي من خَطَّطَ ورعى وساند الجبهة، قبل شَيْطَنَتِها وتحويلها إلى حركة انفصالية، وتَزُجَّ المنطقة في نزاع إقليمي هو اقرب الى حرب استنزاف مُعلنة على المغرب، تُمانِع وتُناوِر وتًعارِض أي تطور لملف الصحراء لا يخدم حساباتها الضيقة، ويخرج عن اطروحة تقرير المصير و الانفصال.
إضافة إلى عدد من المواقف الملتبسة والمتناقضة والمناورة للقيادة الجزائرية بخصوص هذا النزاع، تجسدت في حياد الجزائر حيال نتائج اتفاقية مدريد، (مؤتمر نواديبو 1970)، ثم الانقلاب عليه سنة أو سنتين بعد ذلك. وهناك أيضا مفاوضات إفران السرية بين الحسن الثاني وهواري بومدين (يناير 1969) والتي توجت بتوقيع اتفاق تلمسان (1970) الخاص بترسيم الحدود بين البلدين، وما رافقها من تنازلات ترابية و توافقات أمنية سرية متعلقة بمشروع الجنرال أفقير الانقلابي.
وبخصوص ألمانيا، فهي شاهدة، إن لم تكن شريكة، على/في الأحداث التاريخية التي أدت إلى خلق مشكل الصحراء في مؤتمر برلين 1884، كقوة استعمارية ، وعلى اطلاع تام بالمفاوضات والاتفاقات التي تمت بين بين فرنسا واسبانيا فر 1902 و 1904، وأدت الى تقسيم المملكة، وتقاسم مناطق النفوذ بينهما. وينضاف إلى هذا، الإقصاء المغربي من الملف الليبي، والحرص الألماني على عدم استدعاء المغرب لمؤتمر برلين الخاص بليبيا ( يناير 2020) . وهو ما دفع بالمغرب تعليق التنسيق والتعاون الدبلوماسي مع السفارة الالمانية (مارس 2021) ، ثم استدعاء الرباط لسفيرتها في برلين (ماي 2021) .
أما إسبانيا وفرنسا، فإن حجم تورطهما في النزاع أكبر وأعمق. بدءا من عملية إيكوفيون (فبراير 1958) ، والتي هدفت، بإيعاز من المغرب، إلى القضاء على جيش التحرير، وما ولدته هذه العملية من موجة الهروب الكبرى لسكان الصحراء نحو الجزائر، او نحو طانطان وكلميم(ما يناهز 40 ألف مواطن صحراوي )، وهو ما سيتولد عنه لاحقا خلافا بين المغرب وجبهة البوليساريو فيما يخص لوائح إحصاء الصحراويين التي أعدتها اسبانيا في 1974، والتي تتشبث بها الجبهة للمشاركة في استفتاء تقرير المصير، ويرفضها المغرب.
ثم هناك قرار الانسحاب الإسباني من الصحراء، وفق اتفاق مدريد الثلاثي بين إسبانيا من جهة، والمغرب وموريتانيا من جهة أخرى، والموقعة بتاريخ 14 نونبر 1975 ، والتي نصت ، من بين بنود عديدة تضمنها إعلان مبادئها، على تسليم الأرض والتنازل عنها للمغرب، الذي حصل منها على الساقية الحمراء، فيما حصلت موريتانيا على الجزء الجنوبي من الإقليم أي وادي الذهب.
إنه مكر التاريخ، مَكْرٌ عَكَسَ طبيعة المرحلة بتفاهماتها وتنازلاتها، و كذا مؤامراتها، ولكن أيضا، اسْتَلْزَم مراجعة وإعادة تقييم لازمة ، أكدت أن المغرب يسعى إلى حشد الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي الموسع، ويبنيه على أسس ومقاربات تاريخية وسياسية متفاوض عليها.
وانبنى الرد الدبلوماسي المغربي، في مقام ثان، على عدة إجراءات، تأرجحت بين إطلاق خطط تنموية ومشاريع استراتيجية على الشريط المتوسطي، بجوار إسبانيا، سببت اختناقا لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ( ميناء بني انصار بالناظور، ميناء طنجة المتوسط، مطار طنجة )، وكذا تعليق وتجميد عدد من اللقاءات والقمم السياسية والاقتصادية بين المغرب و الدول الأوروبية الثلاث، بل وصل إلى حد التهديد بإمكانية المطالبة بإعادة فتح ملف سبتة ومليلية والجزر الجعفرية.
ولكن دهاء العقل ورجاحة السياسة، تفرضان ضرورة تحويل هذا التيه وذلك التوتر، إلى فعالية تُخْضِعُ المصير المشترك لعقل يُحْكِمُ سيطرته على مسارات تطور العلاقات المستقبلية بين الدول المعنية بنزاع الصحراء، خصوصا مع توسع دائرة التوتر، وتَحَوُّل علاقة أطراف الصراع إلى بؤر مُلَغَّمَة.
لقد سَرَّعَتْ هذه الحسابات بمخطط الدفع بإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي والديبلوماسي، بما يخدم امن واستقرار المنطقة، ويحترم مصالح وسيادة الدول بها.
في هذا السياق، وفي خطوة مفاجئة، أعلنت الحكومة الإسبانية تغيرا جذريا في موقفها المتعلق بزاع الصحراء بين المغرب وجبهة البوليساريو، كأحد أقدم النزاعات الإقليمية المرتبط بإرثها الاستعماري في المنطقة المغاربية، تغيرا تجسد في إعلان إسبانيا دعمها العلني، ولأول مرة، للموقف المغربي من النزاع المفتعل، وتنهي بذلك قلقا سياسيا وخلافا دبلوماسيا كبيرا دام لعقود.
وبقدر ما اجتهدت الادارة الاسبانية، حكومة وإعلاماً ومنظمات سياسية ومدنية، من أجل تسييد الموقف الجديد وجعله عنوانا لمرحلة جديدة، بقدر ما تفانت الديبلوماسية المغربية ووسائطها التواصلية، في تقديم التحول الجديد للإدارة الإسبانية ، بمثابة الاعتراف غير المسبوق و التطور اللافت، بل جعلت من الموقف الجديد، تحولا استراتيجيا كبيرا.
وحري بنا، أن نحدد بعض المتغيرات التي ساهمت في التعجيل بذلك التحول و الاعتراف .
أولها، أن مسارات تطور العلاقات الثنائية بين المغرب واسبانيا تعكس بعمق، حجم المنعطفات الكثيرة التي مرت منها، وجعلتها انعكاسا لتوترات متتالية، (ازمة جزيرة ليلى يونيو 2002، زيارة سبتة ومليلية الملغاة نونبر 2007، عدم تجديد اتفاقية الصيد البحري 2011، تصريحات العثماني دجنبر 2020، أزمة بن بطوش ماي 2021) تأرجحت بين الحرب الخفية والمعلنة، القطيعة وسحب التمثيل القنصلي ووقف التواصل الدبلوماسي، وصل في السنة الماضية إلى قرار المغرب إغلاق الحدود ووقف كل أشكال التعاون والتنسيق في الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
وثانيها ، أن “قلب الطاولة ” على كل من ألمانيا وإسبانيا، كإجراء حاسم، استجاب لرهان المطالبة بضرورة إيجاد حل للعديد من بؤر التوتر، التي تشكل ترسبات عالقة في علاقة الأطراف الثلاثة وخاصة ما تعلق منها بقضية الصحراء، ثم لرهان يرتبط بمشروع جديد للمنطقة، تفرضه تحالفات جديدة بين أطرافه الفاعلة، ينبني على أساس توسيع شبكة التفاعلات المغربية مع القوى الجديدة، وجعلها أكثر توازنا ، وخاصة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي
وثالثها، إحساس المغرب أنه أصبح فاعلا إقليميا، وقطبا متميزا له من الإمكانات ما يمكنه من القدرة على التأثير في صيرورة إعادة تشكيل طبيعة و حدود ومجالات العلاقة مع الدول المعنية بنزاع الصحراء، والانتقال من الأسلوب التقليدي المُناوِر في تدبير الملفات والأزمات ، إلى محاولة التأثير على النقاش العمومي الداخلي لكل من اسبانيا فرنسا وألمانيا، خاصة في ملفات الهجرة والتهريب والإرهاب.
رابعها، إدراك إسبانيا أكثر من غيرها، أن المغرب لم يعد قادرا على تقبل عجرفات المنطق الاستعماري ولا التدبير السياسي التقليدي لقضاياه الحيوية، كما لم يعد قادرا على تقبل استمرار التناور حيال استقراره وأمنه القومي، ولم يعد يقبل تعنت الدول المجاورة وتقلبات سياساتها ومواقفها من نزاع الصحراء، واستمرار دعمها الخفي والعلني لأطروحة الانفصال، أو الاستمرار في التعنت ورفض الإعلان الأمريكي الخاص بمغربية الصحراء (يوليوز 2021) ، ولا القبول باستمرار المغرب بلعب دور الدركي الحامي للحوض المتوسطي من الانفلاتات التي تتسبب فيها ملفات الهجرة والتهريب والإرهاب.
كل هذا وذاك، عجل بِتَغَيُّر الموقف الإسباني من قضية الصحراء، خاصة وأن الموقف الاسباني أصبح أكثر تعبيرا عن القلق السياسي والارتباك الديبلوماسي الذي يثير حفيضة الرباط. وبدا واضحا ابتداء من 2018 ووصول الاشتراكي بيدرو سانشيز إلى السلطة، أن إسبانيا انتقلت إلى التأكيد على ” العلاقات الممتازة جدا بين البلدين سياسيا واقتصاديا وتجاريا (الموقف المعبر عنه في شتنبر 2019، خلال جلسة المناقشة للجمعية العامة ال 74 للأمم المتحدة). ثم بعد ذلك ، للتأكيد على ضرورة التوصل الى حل سياسي عادل ودائم ومقبول لدى الطرفين وفق قرارات الأمم المتحدة، دون الحديث عن مبدأ تقرير المصير، قبل أن تعصف الأزمة الصامتة بين مدريد والرباط، على خلفية استقبال اسبانيا لزعيم البوليساريو، باسم مستعار وهوية منحولة ( ماي 2021) ، بالعلاقات المغربية الاسبانية، ولتدخل مرحلة الحسم السياسي لعدد من القضايا، وفي القلب منها مستقبل نزاع الصحراء.
التصريحات الحكومية الإسبانية التي سبقت هذا التطور المفاجئ، اتجهت صوب تهيئ الرأي العام الإسباني تجاه عدد من القرارات الجريئة، بعضها جاء على لسان وزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل ألباريس، الذي أعلن ” أن العلاقات المغربية الاسبانية يجب أن ترقى إلى القرن 21 ” ، وهو موقف لقي صدى واسعا لدى وسائل الإعلام والتنظيمات السياسية والمدنية، خدمة لإرساء معالم “السيناريو القادم”، والذي ينبني على مراجعة عميقة لأخطاء الدبلوماسية الإسبانية في هذا الملف وتقر على لسان رئيس الحكومة الإسبانية في رسالة للملك محمد السادس (18 مارس 2022) ” أن إسبانيا تعبر عن قناعتها بقيمة مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007، كحل منطقي ومرجعي للنزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية “، وأن هذا المقترح هو ” الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية هذا الخلاف ” . قبل أن يؤكد ” تّعّهُّدُ اسبانيا بضمان سيادة المغرب ووحدته الترابية في إطار المرحلة الجديدة التي تم تدشينها بين البلدين “. وهو ما حدا بجريدة الباييس الأكثر انتشارا في إسبانيا إلى التأكيد ” أن مدريد تَخَلَّت رسميا عن موقفها التقليدي المحايد في نزاع الصحراء، بتفضيلها للمقترح المغربي للحكم الذاتي ” (عدد الجمعة 18 مارس).
الآن، وقد حقق المغرب نجاحات دبلوماسية وسياسية، متعلقة بمستقبل أمنه القومي واستقراره المجالي الترابي والسياسي، يجب أن تتعزز بطلب معالجة الملفات المتعلقة بتصفية الاستعمار الإسباني لسبتة ومليلية والجزر الجعفرية، مع ضرورة ترسيم الحدود البرية منها والبحرية، كما لا يمكن أن تنسينا هذه المكتسبات، العمل الكبير الذي تستلزمه تقوية الجبهة الداخلية، عبر إنهاء مرحلة الاستقرار السلطوي والانفتاح المحجوز، الكابحة لسيرورة الانتقال الديمقراطي، ولولوج عتبة الإصلاح السياسي والدستوري الضروري لبدء ورش بناء دولة الحق والقانون، والخروج من حالة التوتر والاحتقان الاجتماعي والسياسي، وتحقيق انفراج عام بإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين على خلفية الحراكات الشعبية، وكذا معتقلي الرأي من صحفيين ومدونين.
لقد اندحر مكر التاريخ أمام عدالة السياسية ووجاهتها، واقتنع الحكام أن حصيلة التدبير التقليدي لمسارات تطور العلاقات الثنائية، لا بد وأن ترتهن بوعي حقيقي للإشكالات والقضايا، وأن تدبيرها والتفكير فيها لا يمكن أن يخرج عن قيم الحوار والاحترام وحسن الجوار، والالتزام بالمصير المشترك.