الفضاء شاسع. الحقول جرداء، تراب أحمر، ممتد على مرأى البصر. تلوح في الأفق نقطة سوداء. تكبر. تكبر. تأخذ شكل حمار. حمار وحيد، أغبر، مُعطّل، صامد تحت أشعة الشمس الخريفية.
يحرك رأسه، ذيله، قوائمه. يقاوم ذبابة زرقاء ملعونة. تحوم الذبابة حوله. تحدد الهدف. تغوص في جرح في الظهر. يرتعد الجسد، من هول الاختراق، من النهش الدائم لجراحه الغائرة. جراح سنوات طويلة من الأشغال الشاقة. يتألم. يعتاد الألم. يستطيبه. يسعد بوجوده. تستريح الذبابة من امتصاص الدماء الراكدة. تفقد الشهية. ترخي جناحيها فوق الرموش المتكلسة.
يهدأ الألم. يَقِيل الحمار واقفا. تسرح عيناه السوداوان، الجميلتان، في فراغ بهيم. يتذكر. يستعيد نزقه يوم كان جحشا، يجوب الحقول الخضراء في خفة الغزلان، يمتطيه أطفال الدوار العابثون. يسترجع الطرقات، فنادق الأسواق، عيون الآتان العاشقة. يتحسر على زمن مضى. لا بأس. لازال في الذاكرة متسع للحلم. يحلم أحلام الحمير: [حفنة شعير، ذراع برسيم، دلو ماء، رفيقة لعوبة، خنوعة، صبورة]. تزداد الشمس التهابا. تستعيد الذبابة نشاطها. ينعم الحمار بمصيره. يعتاد المشهد. تأخذ الحياة إيقاعها الرتيب.
تميل الشمس نحو الغروب، يأخذ الحمار “السعيد” طريقه اليومي نحو المبيت. تستوقفه شاحنة وردية. تحمل البشر والحمير. ينزل شابان. يعترضان طريقه بأدب واحترام. يحدثانه بلغة غريبة عن معجمه الفقير. يستغرب الحمار. يظل واقفا، صامتا، صامدا. ينبهر الشابان بقوة شخصيته. يتوسمان فيه صفات قيادية: [القدرة على الإصغاء، امتصاص ردود الفعل، إفحام الخصوم، التريث في اتخاذ القرارات]. يقتنعان باختيارهما. يخرجان، من حقيبة جلدية صغيرة، أدوات الحلاقة والصباغة والتجميل. يشرعان في بناء القائد السعيد. تنطلق الأنامل. تُطلى أجفانه، ظهره، بطنه، قوائمه. تختفي الجراح القديمة تحت الطلاء الوردي. يشعر الحمار بألم من نوع آخر. يتحمل. لا يعرف طريقة غير التحمل. تستمر أنامل العبث في تجميل ما شوهه الزمان. يأخذ الحمار شكلا ورديا مبهرا.
تنطلق الشاحنة الوردية. تأخذ طريقها نحو العاصمة. نحو فضاء الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات والتنفيس عن المشاعر، والأحلام المجهضة. فضاء فرجة محصورة في المكان، محدودة في الزمان. تصل الشاحنات. يطل “السعيد” المُجمًّل من أعلى الشاحنة، يجيل بصره في المشهد الآخذ في التشكل. شوارع مسفلتة، أرصفة منضدة، حدائق، عمارات تتحدى عنقه المنحني دوما. حيوانات ميكانيكية كثيرة، متعددة الأحجام والأشكال والألوان. يستغرب. يبحث عبثا عن الذبابة الزرقاء. لا أثر. يدرك أنه في كوكب آخر. يدقق النظر في ما حوله. [ شبان، كهول، نساء، رجال، حمير من مختلف الأصناف والأعمار]. تلفظ الشاحنات أثقالها. يسرع “السعيد” نحو الصفوف الأمامية. يتلفت يمينا، يتلفت يسارا. تتراءى له الآتان الوردية. يستعيد حيويته، ينتفض شبابه. يندفع. يتراجع. يترزن، ينضبط. يندمج في الفضاء الوردي.
تتعالى الجلبة واللغط. تشرئب الأعناق. تخفق الأفئدة. يُهلُّ الزعيم الوردي الفعلي، راكبا موجة من الأشياع والأتباع، والمستشارين والمخططين والممولين، ومشاريع الزعماء والوزراء. يترجل. تنحني رقاب البشر وأعناق الحمير. يصعد الزعيم القصير على الأكتاف. يحلو على الحشود. يفتح فاه. يُكبّر، يُحمدل، يُحوقِل. يتعالى زعيقه. تتطاير الكلمات. تتناثر العبارات المكرورة: [المقايسة، المقاصة، الإصلاح الضريبي، الساعة الإضافية، البطالة، مصلحة الوطن، تهميش الحمير، استنزاف جيوب الفقراء، الأزمة العالمية، الحرب الكونية، الانتخابات المبكرة، الدولة العميقة. الفساد. الكساد].
يتصاعد التصفيق. ترتفع حدة الزعيق. تتضارب الأصوات في أُذني حمارنا “السعيد”. تشتد حرارة الإسفلت الملتهب تحت قوائمه المصفحة. يتألم. يتحمل. يفقد الصبر. يرفع قائميه الأماميين. يمدد رأسه. يشرع في النهيق. تسمعه الحمير. ترفع قوائمها الأمامية. يعلو النهيق. يعلو الزعيق. تشتغل الكاميرات، الميكروفونات، الهواتف المحمولة. تشتعل الفرجة. ينطلق “السعيد” سائرا على قائميه الخلفيين، بحثا عن الرطوبة. تتبعه بقية الحمير في رقصة عرجاء. يظل البشر قابعين مشدوهين. ينتشر الحمير في كواليس الفضاء الوردي. ينسحب الزعيم. تتبخر حاشيته. يستمر “السعيد” في الخبط على قائم واحد. ينتهي به الرقص أمام أبي رقراق. يغمس قائميه الملتهبين في الماء. يستعيد وعيه. تتراءى له الذبابة الزرقاء نفاثة. تحوم فوق رأسه. يبتسم. يستعيد حموريته. يحن إلى الألم القديم. يلتفت. ترشده الذبابة نحو طريق العودة. ينطلق. يتلاشى اللون الوردي في جنح الظلام.