مقاطع من حكاية أزلية، من ذكريات شعب خبزستان.
(1)
نشرة أخبار الثامنة مساء في دولة خُبزسْتان. مقدم النشرة ممتقع الوجه. ما كياج شاحب. تتمطط شفتاه. تبحث عيناه عن النص الإلكتروني. يجده. يهدأ قليلا. يبتلع ما تبقى من ريقه. يتمتم ” طاب مساؤكم. خبر عاجل. المفاوضات الجارية بين الحكومة وأرباب المخابز تنتهي إلى الفشل. يعلن الخبازون عن إضراب مفتوح”.
(2)
يُكيَّف الخبر. يشيع في أرجاء المدينة السعيدة. ينتشر الرعب. يسود الهلع. تفتح الأبواب. يهرع السكان بحثا عن الخبز. تغلق الدكاكين. تُوصد المخابز. تعجز السوق السوداء أمام الطلب المجنون. يستولي اليأس على المحرومين. تصيح الأبواق. تتعالى الهتافات. تتصاعد الاحتجاجات. يدوي صوت الشارع: ” الخبز .. الخبز.. الخبز”.
(3)
تتجمع الفلول: أطفال، شبان، نساء، شيوخ. راكبون، راجلون، متسلقون. يملؤون الشوارع. يتزاحمون. يتدافعون. تصب الشوارع الأمواج البشرية في الساحة الكبرى. تُستنفر القوات العمومية. تخرج السيارات المصفحة. يدجج أفراد القوات المُستنفَرة بالهروات، بالقنابل المسيلة للدموع، بالذروع.. بالقليل من الحماس والاقتناع.
(4)
تُغلق المطارات. تقطع الاتصالات. تشتغل آليات التعتيم. تُسد الشوارع. تطوق المسألة. توظف آليات التسخير. تُضاء الشاشات العملاقة. تفغر العيون والأفواه والآذان. يستمر اللغط. تتناسل الأسئلة والتعليقات. ترفع اللافتات.
(5)
يطل رئيس حكومة خبزستان. أمامه صحفيان. خلفه حملة الحقائب. تقترب منه الكاميرا. تقطّعه: ربطة عنق زرقاء. هندام أزرق. هدوء مفتعل. نظرة منزعجة. تنفتح شفتاه. تثرثران. يأتي الخطاب مبحوحا “اسمعوني. افهموني. صدقوني لآخر مرة. ستقُصُّ الحكومة من مداخيلها، من استثماراتها، من ديونها المكدسة. ستوفر خبزة لكل واحد منكم. خبزة واحدة .. يوميا. هذا التزام حقيقي. لن أستقيل إن فشلت. الأمر خارج عن إرادتي.” ينتهي الخطاب. يبتسم الصحافيان. يصفق أصحاب وصاحبات الحقائب.
(6)
تحتد الاحتجاجات. تبث الشاشات إشهارات غذائية. حلويات. فطائر. أسماك. شرائح لحوم. ماركات متنوعة من الجبن، من الحليب. الجماهير لا تبالي. لا تريد غير الخبز: “الخبزْ. الخبزْ. الخبز الخبز الخبزْ”. تفشل الشاشات العملاقة. ينتهي الإرسال. تُطفأ الأنوار. يسود الظلام. تبتلع الحناجر هتافاتها. تتكتل الأجساد ضد المجهول. تمر الدقائق بطيئة. بطيئة. يدب اليأس إلى شعب خبزستان..
(7)
يحدث أمر غريب. تنطلق في الأجواء أضواء وأشكال غريبة. تُخطف الأبصار. تخفق القلوب. تشرئب الأعناق. تزداد الأضواء لمعانا. تزداد الأشكال تكتلا. تتحد الأضواء بالكتل. تتخذ شكل دائرة مضيئة. تكبر الدائرة. تتضح معالمها. يشع لونها القمحي. تُحبس الأنفاس. تذهل الجماهير. ترتفع أصوات الأطفال: ” إنها خبزة. آتية من السماء. السماء تستجيب. اشكروا السماء!!”. ينبهر القوم. يخرون سُجَّدا. يرتلون. يسبحون.
(8)
تحط القوات العمومية أسلحتها. تنزع خوذاتها وأحذيتها الثقيلة. تنخرط في الابتهال: ” واخبزتاه. انزلي. اقتربي. أشعي نورك. اقتربي “. تنشرح القلوب. تطمئن البطون. تخشع الأصوات. تجذب الأجساد. تستمر الصلوات.
(9)
ينبلج الصبح. يلملم الليل سواده. تتسرب أشعة الشمس. تأخذ الخبزة في الانكماش. يأخذ لونها في الشحوب. تضمر. تتضاءل. تصير نقطة صغيرة. دقيقة. تضمحل. تتبخر في فضاء النهار. يستحوذ الذهول من جديد على العقول والألباب. تتلاشى الأصوات. تتوقف الابتهالات. تستعيد القوات العمومية خوذاتها، أسلحتها وأحذيتها الثقيلة. تتحرك الأجساد بطيئة، متراخية نحو حلم جديد. تستمر القلوب معلقة في الفضاء.
(10)
تخلو الساحة. تستعيد هدوءها. يمكث طفل صغير.. صغير جدا. يوزع النظر حائرا. شاشات عملاقة منطفئة. سماء فسيحة جذباء. ينتظر جوابا. يتوقف عن النظر فجأة. يُغمض عينيه القمحيتين. يستجمع قواه. يصيح بصوت عنيد:” وا خبزتاه! وا خبزتاه!..” تردد صدى صوته فلولُ المنسحبين من شعب خبزستان .. في صمت كئيب.