- الإعلانات -
يعتبر أندريه تاركوفسكي المخرج الأكثر شهرة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى وفاته في باريس، وقد أطلق عليه لقب بطريرك “الفيلم الشعري” السوفييتي المعاصر. وُلِد أندريه تاركوفسكي عام 1932 في لوفراتشي مقاطعة إيفانوفا في الاتحاد السوفياتي، توفي سنة 1986 عن عمر ناهز الأربعة وخمسين عاما، بعد أشهر فقط من إصدار فيلمه الأخير The Sacrifice، اشتهر بإخراجه لأفلام عديدة حققت مجده الشخصي وظلت أيقونات فنية شاهدة على عبقريته السينمائية، ولعل أبرزها Ivan Childhood 1962 Andrei Rublev 1966 Solaris 1971 The Mirror 1975 Stalker 1979، وNostalghia 1983، كما لا تزال أفكار تاركوفسكي المكتوبة حول السينما والفن تثير النقاش والسجال في الحقل الفني حتى يومنا هذا.
تضمنت جميع أفلام تاركوفسكي الشعرية مجموعة مواضيع الدين والروحانية والخيال العلمي والسياسة والحرب والذاكرة البشرية والرغبة.. إلخ، وتميزت جميعها بكونها قطعًا فنية خالصة بعيدا عن الأغراض التجارية المحضة، إذ تم الجمع بين الاستخدام السخي للعناصر الطبيعية – الرياح والمياه والنار، واعتماد اللقطات البطيئة – الطويلة لإنشاء صور استمرت في جذب انتباه عشاق السينما في جميع أنحاء العالم.
الموجة الروسية الجديدة
يمكن تقسيم تاريخ اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بعد الثورة إلى ثلاث فترات رئيسية: الفترة الستالينية (1927-1953) ثم فترة ما بعد الستالينية (1953-1986) وفترة غورباتشوف (وما بعدها) (1986-)، وخلال فترة ستالين كانت صناعة السينما السوفياتية خاضعة لسيطرة النظام الشيوعي بشكل صام وتحت رقابة مفرطة كما أنها كانت تحت الطلب.
بدأت الموجة الروسية الجديدة خلال فترة ما بعد الستالينية، في نفس الوقت تقريبًا كما فعلت في بقية أوروبا، وتميزت بأفلام عن التاريخ الوطني، الحرب العالمية الثانية والدراما الاجتماعية والأفلام الشعرية. كما يوجد العديد من صانعي الأفلام الروس الذين يمكن تصنيفهم ضمن هذه الموجة ومن بينهم أندريه تاركوفسكي وسيرجي باراديانوف وأليكسي جيرمان وتينجيز أبولادزي وأوتار يوسيلياني ونيكيتا ميخالكوف.. ولعل الحديث عن السينما السوفيتية الروسية يستدعي مناقشة إنجازات المدرسة القديمة والجديدة لصناعة الأفلام ويمكن للمرء حينها أن يبدأ بسهولة بمقارنة أعمال ونظريات سيرجي آيزنشتاين وأندريه تاركوفسكي.
تطور المونتاج السوفياتي بعد الثورة الروسية عام 1917 ويعتبر سيرجي آيزنشتاين من أوائل المنظرين حول المونتاج السوفيتي، بحيث ينظر المونتاج السوفيتي إلى الحركة والفضاء على أنهما من الخصائص المميزة للسينما على عكس المسرح، إذ يحدد المونتاج الطريقة التي يتم بها قص الصور وتجميعها معًا، كما يؤلف المخرج الأجزاء المصوّرة المنفصلة في الكل ويجمع هذه الأجزاء في هيكل متكامل لتحقيق تأثير إيقاعي. وقد اعتبر آيزنشتاين المونتاج أساس فن السينما، وأشار إلى ما أسماه “مونتاج الجذب”، أي الأشياء والأفكار والرموز في تصادم لإنتاج استجابة فكرية ونقدية من طرف المشاهد.
بينما عارض تاركوفسكي بشدة المونتاج واعتقد أن أساس فن السينما (فن الفيلم) هو الإيقاع الداخلي للصورة، تنبني فكرة تاركوفسكي عن “النحت في الزمن”، أي النظر للسينما على أنها تمثيل لتيارات أو موجات زمنية مميزة، يتم نقلها في اللقطة من خلال إيقاعها الداخلي. فقد اعتقد تاركوفسكي أن صورة الفيلم ليست مركبة من لقطات مختلفة مرتبة في هيكل ضمن تسلسل معين يتقدم بمرور الوقت، حيث استنتج أنه إذا لم تكن صورة الفيلم مركبة، فيجب أن يكون العامل المهيمن للفيلم هو إيقاعها. الإيقاع هو جوهر “الفيلم الشعري”. لكن فكرة تاركوفسكي عن الإيقاع ليست فكرة آيزنشتاين، بل تصور الإيقاع السينمائي على أنه نوع من الحركة داخل الإطار، وليس كسلسلة من اللقطات في الوقت المناسب. ومن ثمة، فإن السمة الرئيسية للفيلم الشعري هي عملية النحت في الوقت المناسب بدلاً من مونتاج آيزنشتاين للعناصر الجذابة. وبينما تسترشد عملية تحرير آيزنشتاين بالتجاور الفكري والمفاهيمي للصور، فإن نحت الوقت الذي يستخدمه تاركوفسكي يتضمن تقنيات التحرير التي تسمح بالتوحيد التلقائي للصورة كهيكل منظم ذاتيًا، بدلاً من تفاعل المفاهيم (مونتاج آيزنشتاين)، وقد ابتكر تاركوفسكي صورة الفيلم كتعبير عن عالم المادة أو بالأحرى بساطة العالم، فبالنسبة لأيزنشتاين يعطي الوقت إشارة للنهاية؛ لكن بالنسبة لتاركوفسكي، فالوقت هو القاعدة وأهم تقنية سينمائية.
من هنا إذن يعبر الوقت داخل الإطار السينمائي عن شيء مهم وصادق يتجاوز الأحداث التي تظهر على الشاشة وتلك الموجودة في هذا الإطار؛ وبالتالي فإن الإدراك المباشر للوقت يشبه المؤشر إلى اللانهاية (هذا النهج مختلف تمامًا عن “مونتاج الجذب” بين اللقطات حيث يتم مقارنة العناصر في اللقطة بالأفكار، مما يجعل المشاهد ينتج رابطًا فكريًا، بينما ينتج عن مونتاج الجاذبية اندفاع من المعنى، يثير المشاهد بغرض اقتراح أفكار ومفاهيم محددة، كما توضح إيقاعات الوقت عند تاركوفسكي طريقة لرؤية الحياة في جوهرها. علاوة على ذلك، قد يتجاوز هذا التعبير الشعري للعالم المادي نية الفنان ويتم استقباله بشكل مختلف من قبل كل مشاهد، ففي مدرسة تاركوفسكي الشاعرية، يعبر المخرج عن فلسفته في الحياة بدلاً من خلق تصور جديد للواقع الاجتماعي.
يعتبر فيلم المرآة لتاركوفسكي The Mirror، فيلما شخصيا فلسفيا، وسيرة ذاتية تتعامل مع الذاكرة والزمن بنوع من العبقرية التي تختزل جل أفكاره عن الزمن والمونطاج والواقع. فمفاهيم كالوقت والتذكر كانت تعبيرات مجازية تناولها عدة نُقاد ومؤلفين آخرين. وتتعمق هذه المفاهيم في التواريخ الشخصية لشخصياتها من خلال شبكة مكثفة من الفترات الزمنية المتشابكة، يتحول التاريخ في فيلم المرآة إلى مرآة غامضة تعكس ثلاثة مستويات مختلفة للزمن، التي يعبر فيها الوقت عن إحساس بالوحدة العالمية من خلال فترات مميزة تلمح إلى نهاية العالم.
لقد قدم فيلم المرآة صورا من ذكريات وأفكار وأحاطها بأفكار مبنية عن الزمن، فالأشياء المادية تنعكس في صورة زمنية، كحركة مزدوجة “للتحرير والالتقاط”، حيث يكون الكائن الافتراضي هو المرآة الحقيقية؛ كما لو أن الصورة في المرآة تنفصل عن سطحها وتتبلور جسديا ليعاد امتصاصها مرة أخرى وتصبح أكثر عقلية. باختصار تحتوي صورة الوقت على بنية الصورة، وهي عبارة عن اندماج بين ما هو فعلي وافتراضي. ويوضح” دوناتو توتارو” أن مفهوم “الجسدية” يتعلق بالمادة باعتبارها امتدادًا للفضاء وصورة الحركة ، في حين أن “العقلية” مرتبطة بالذاكرة كمدة الأفكار والصورة الزمنية، فالصورة المتحركة هي سينما مكانية كما نشاهد في أفلام هوليوود، حيث يُقاس الوقت بالحركة ويتم تحديده من خلال العمل.
السينما ونحت الزمن عند تاركوفسكي
الوقت هو مفهوم فكر فيه الفلاسفة والفنانون والشعراء والعلماء على حد سواء، إن تصورنا للوقت غير موضوعي ويختلف بالنسبة لكل واحد منا – يمر وقت شخص ما بشكل أبطأ أو أسرع من وقت شخص آخر في أي لحظة، إذ أن الوقت شرط لوجود “أنا”؛ يربط الشخصية الفردية بظروف وجودها وهي علامة على الذاتية البشرية.
نشر تاركوفسكي سنة 1985 كتابه “النحت في الزمن”، وهو عمل كثيف المعنى ومبهج يمثل جزءً من نظرية الفيلم، وجزءًا من النقد الثقافي، وتركيبا لفلسفته في الحياة، وقد عبر فيه قائلا: “لأول مرة في تاريخ الفنون وفي تاريخ الثقافة، وجد الإنسان وسيلة لأخذ انطباع عن الزمن. وفي نفس الوقت إمكانية استنساخ ذلك الوقت على الشاشة بقدر ما يشاء، لتكرارها والعودة إليها”.
“يمكننا تعريف السينما على أنها نحت في الوقت، تمامًا كما يأخذ النحات قطعة من الرخام، وإدراكًا داخليًا لملامح قطعته النهائية يزيل كل ما ليس جزءًا منها – هكذا يشتغل صانع الفيلم فمن “قطعة من الزمن” تتكون من مساحة هائلة يمكن نحت مجموعة صلبة من الحقائق الحية، تقطع وتتجاهل كل ما لا يحتاجه تاركا فقط العناصر المهمة في الفيلم، ما يثبت الزمن جزء لا يتجزأ من الصورة السينمائية”.
يعتبر الفيلم بطبيعته شكلا فنيا قائما بشكل مركزي على الوقت يُستخدم تقليديًا لنقل المشاهد إلى مكان أو عمر أو منطقة زمنية أخرى، “تنظيم العناصر المرئية المكانية في الوقت المناسب”، إنه متعدد المعاني ويضع المشاهد في أكثر من مكان في وقت واحد (زمن المشاهدة)، بحيث يحدث تجاوز للجسد المادي، دون إنكار الحقيقة الحرفية لذلك الجسد – فهو يقع في مكانين وزمانين في وقت واحد. ويتم استيعاب المشاهد في وقت الفيلم أو السرد ومع ذلك لا يزال موجودًا في الإطار الزمني للوقت الحاضر، إذ يكون العقل في الفيلم السردي التقليدي في مكان آخر – في الماضي أو المستقبل أو بعيدًا جغرافيًا – بينما يظل الجسد في العالم المادي هنا والآن.
رصد تاركوفسكي، كما جادل الفيلسوف جيل دولوز، “القليل من الوقت في حالته النقية … كل ما يتغير يأتي في الوقت المناسب ولكن الوقت نفسه لا يتغير”، لا يصف دولوز هذه اللحظات بأنها حركة-صور بل على أنها صور زمنية أو “مواقف بصرية بحتة”، ويعرّف الحركة-الصورة على أنها عملية السرد الحسية الحركية التي تعمل فيها الشخصيات في مواقف معينة وفق إدراكهم، ويتم تمييز الماضي والحاضر والمستقبل بوضوح وتحديد التسلسل الزمني. ومع ذلك فإن الصورة الزمنية ليست ترتيبًا زمنيًا دون وجود إحساس بالتفاعل الخطي أو التحديد النهائي للفعل الماضي والحاضر والمستقبل، بل هي صورة زمنية مباشرة “تعطي ما يتغير في الشكل الثابت الذي ينتج فيه التغيير”. وينص تاركوفسكي على أن المخرج يجب أن “يحدد الوقت في مؤشراته التي يمكن إدراكها للحواس”، في حركة الأشخاص عبر الفضاء، وصدى الضحك، وأصوات الماء، في محاولة لجعل الوقت معقولًا ومرئيًا ومسموعا.
تحدثت لورا يو ماركس عن فكرة الإدراك الحسي في كتاب “الرؤية اللمسية” في السينما. مستخلصة أن المعرفة متجسدة وملموسة ومدمجة في الجسم المدرك – وأن الجلد يمتلك ذاكرته الخاصة بحيث يتم تجسيد الإحساس في اللقاءات اللمسية السابقة برؤية شيء ما على الشاشة. كما تتجسد الذاكرة في الكائن سواء كان موجودًا ماديًا أم لا فالفيلم يشهد على الشيء وبالتالي ينقل وجوده. ولا يمكن أن يحل تمثيل الكائن على الشاشة محل وجوده المادي، ولكن يمكن أن يحفز الذاكرة المادية لوجوده.
هكذا إذن يقدم تاركوفسكي الوقت باعتباره بُعدًا سينمائيًا ونحتا في عملية صنع الفن، وينخرط في ممارسة “النحت في الوقت المُناسب”، حيث يجعل من الزمن عنصرا رئيسيًا في صناعة الأفلام. ويجعل الزمن الماضي والمستقبلي ملموسًا في الوقت الحاضر، من خلال إشراك المشاهد في إحساس الرؤية اللمسية من خلال الصور المرصودة للحاضر الحقيقي المصور على الشاشة. فالمخرج بحسبه ما هو إلا نحات في الزمن يعيد تعريف الأبعاد المادية للذات على أنها ضوء سريع الزوال ويشارك في الزمان والمكان، بينما ينطلق الفيلم السينمائي من تقييده إلى شاشة ذات أبعاد ثلاثية. وبالتالي يختصر تاركوفسكي السينما في البحث عن الوقت نفسه من خلال الاستكشافات السينمائية للمدة والتجسيد والمادية والحضور والإدراك، أي البحث ذاته عن الوقت.
مصادر:
Menard David. 2003. “A Deleuzian Analysis of Tarkovsky Theory of Time Pressure”. cine physics, vol 7, issue 8/ August. Part 1.
Tarkovsky, Andrey. 1988. Sculpting in Time. Translated by Kitty Hunter-Blair. Austin, TX: University of Texas Press.
Sergei Eisenstein. 1957. Film Form, Jay Leyda, ed., trans. (New York:
Meridan Books, Inc. p. 28.
Vlada Petric. 1989. “Tarkovsky’s Dream Imagery,” Film Quarterly, vol. 43,
no.2, (Winter 89-90).