عشنا في هذه الأسابيع الأخيرة عملية بهلوانية غريبة الأطوار، فمن سعي معلن من الثنائي الصادق بلعيد وأمين محفوظ لنزع المرجعية الدينية
من دستور «الجمهورية الجديدة» وذلك بالتخلي عن الفصل الأول من دستور 2014 (والذي هو استعادة للفصل الأول حرفيا من دستور 1959) إلى «توافق» داخل لجنة الأربعين يقضي بإلغاء الإشارة إلى دين الدولة وتعويضه بالتنصيص على الهوية العربية الإسلامية لتونس في مشروع التوطئة ثم وصلنا إلى الإعلان الصريح لرئيس الدولة يوم أمس أثناء زيارته للدفعة الأولى للحجيج التونسيين أن الدولة كائن معنوي لا دين له وأن الدين يتوجه للإنسان وبالتالي للأمة،فنحن إذن أمة دينها الإسلام وأن الدولة تسعى لتحقيق مقاصد الإسلام وأن هذه المبادئ سيتم تضمينها في دستور «الجمهورية الجديدة» ..
بين ما أعلنه في البداية الثنائي بلعيد ومحفوظ وما أعلنه يوم أمس قيس سعيد بون شاسع واختلاف فكري جوهري لا يشفع له بعض التطابق في مفاهيم فضفاضة لا تعني شيئا كاعتبار الدولة كائنا معنويا لا دين له، إذ يتعلق الإشكال بكل وضوح بسياسات الدولة لا بهويتها الميتافيزيقية .
قلنا في مناسبات سابقة أن الفصل الأول من الدستور «تونس دولة (…) الإسلام دينها» والذي ورد بصيغته هذه في دستور 1959 لم يكن يعني مطلقا عند الآباء المؤسسين للجمهورية الأولى أن الإسلام دين الدولة بل دين تونس اي دين غالبية سكانها.. وعندما حاولت حركة النهضة بصفة ملتوية فرض قراءة «دين الدولة» في مشروع دستور غرة جوان 2013 تم إلغاء هذا التحيل في دستور 2014 تماشيا مع التأويل الطاغي للصبغة الوصفية لا المعيارية للفصل الأول كما فهمه الآباء المؤسسون وأردف بفصل ثان ينص على مدنية الدولة بما يمنع القراءة الإسلاموية للفصل الأول ..
الواضح أن قرار حذف هذا الفصل الأول من دستور «الجمهورية الجديدة» هو قرار رئيس الجمهورية وأن تأويل الثنائي بلعيد / محفوظ لهذا الحذف باعتباره نوعا من العلمنة المبطنة إنما كان اجتهادا فرديا رغم نهله جزئيا من التصور الرئاسي القائم على الأسس التالية والتي سبق له آن وضعها في محاضرته الشهيرة سنة 2018 المعنونة بـ”دينها الإسلام” .
فكرة الأستاذ قيس هي التالية:
كل التجارب الدستورية في العالمين العربي والإسلامي منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر لم تطرح فكرة «الإسلام دين الدولة» إلا تحت الضغوط المتعاظمة للنفوذ الغربي ومرد ذلك هو –فيما فهمنا – إجبار هذه الحكومات على الإقرار بحقوق الأقليات المسيحية واليهودية داخلها وحقوق الجاليات الأجنبية كذلك،ثم أكدت من جديد – الدول الغربية الاستعمارية – على أهمية «الإسلام دين الدولة» عند العرب والمسلمين في القرن العشرين لمواجهة المدّ الشيوعي السوفياتي .
إذن يكون بهذا المعنى التنصيص على دين الدولة علاوة على خطئه الفكري (الدولة كائن معنوي لا دين له) هو كذلك إرث استعماري سلبي ..
قد يبدو هذا التأويل موغلا في الغرابة ولكنه يعبّر بكل دقة على فكر رئيس الدولة وهو إذ يزيح الصفة الإسلامية عن الدولة لا يكون ذلك لعلمنتها بل لإعادة الدين إلى وضعه الطبيعي وهو كونه دين الأمة لا دين الدولة وتكون الدولة خادمة للأمة بأن تسعى لتحقيق مقاصد دينها أي مقاصد الشريعة كما عرّفها الشاطبي (من علماء الأندلس في القرن 14 م) في كتابه الشهير «الموافقات في أصول الشريعة» وقد نوّه رئيس الدولة يوم أمس بأن أول طبعة لهذا الكتاب قد حصلت بتونس سنة 1882 وأن المدرسة التونسية قد أضافت لهذا الفنّ مسألة الحرية كمقصد من مقاصد الشريعة كما بين ذلك محمد الخضر الحسين عالم الدين التونسي الذي تولى بعد هجرته إلى مصر مشيخة الأزهر ..
نحن إذن بعيدون كل البعد عن فكرة فصل الدين عن الدولة التي دافع عنها الثنائي بلعيد/محفوظ لنجد أنفسنا داخل المدرسة الدينية التقليدية والتي لا تتصور العالم – في أحسن حالاتها – إلا من منظار «مقاصد الشريعة» فقط لا غير.
ويبقى السؤال الآن هو هل سينص مشروع الدستور الجديد بوضوح كاف إلى أن الدولة تسعى لتحقيق مقاصد الإسلام أم لا ؟ ففي صورة الإيجاب تكون كمن «هرب من القطرة فجاء تحت الميزاب» إذ ستكون هذه الجملة وأيا كان موقعها في الدستور (في التوطئة أو في غيرها من الأبواب ) الطريق السيارة من أجل تحقيق «الأسلمة الناعمة» ذلك الحلم الذي أخفقت فيه حركة النهضة في عنفوان حكمها خلال فترة الترويكا ..
لن يشفع لنا في هذه الحال حسن نوايا بعضهم من المساهمين النشيطين في هذا المسار أو المنتظرين لمفاجأة سارة. فجهنم، كما هو معلوم، مبلطة بالنوايا الطيبة !
ينشر هذا المقال باتفاق مسبق مع جريدة التونسية.