أطلقت وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة عبر أحد مكاتب الدراسات الدولية استبيانا افتراضيا تسعى من خلاله إلى جمع آراء ومواقف الأشخاص المعاقين وأسرهم ومنظماتهم لتقييم مخطط العمل الوطني المتعلق بالفترة 2017-2021 وتحديد حاجياتهم وانتظاراتهم من مخطط العمل 2022-2026. ويبدو أن هذه المبادرة تندرج ضمن منهجية نسقية شكلت إحدى أدوات عمل الوزارة في مجال الإعاقة طوال العقدين الأخيرين. وتتسم الدراسات الإحصائية واسعة النطاق التي تسهر على إنجازها بعض المؤسسات العمومية والحكومية بتوظيف عدة من التقنيات الكمية لجمع المعطيات الميدانية لرصد نسب انتشار العجز وأنواع القصور وقياس نجاعة بعض برامج التأهيل بالإضافة إلى تشخيص الأوضاع الاقتصادية والتربوية للأشخاص ذوي الإعاقة. ويشكل البحث الوطني حول الإعاقة في نسختيه 2004 و2014 بالإضافة إلى الدراسة التشخيصية التي سبقت وضع (السياسة العمومية المندمجة للنهوض بأوضاع الأشخاص في وضعية إعاقة 2016) نماذج من هذه الدراسات بالسياق المغربي. إلى جانب البعد التشخيصي، يكتسي هذا الصنف من الدراسات أهمية خاصة في حقل الإعاقة كما تبرز ذلك الاتفاقية الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة إذ تتيح إمكانية رصد مواقف وخطاب الأشخاص المعنيين حيث تنص المادة 31 على أن هذه البيانات “تُستخدم للمساعدة في تقييم تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها الدول الأطراف بموجب هذه الاتفاقية وفي كشف العقبات التي تحول دون ممارستهم لحقوقهم والعمل على تدليلها.” وهو ما يعني بعبارة أخرى أن هذه الدراسات الاستشارية تمكن الأشخاص ذوي الإعاقة من تتبع ورصد نجاعة السياسات العمومية في إزاحة الحواجز التي تحول دون تمتعهم بكافة الحقوق والولوج إلى مختلف الخدمات المقدمة لغيرهم كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والولوج إلى سوق الشغل المفتوح.
إلى جانب الدراسات الاستشارية، يشير الباحث البريطاني (barnes, 2014) إلى وجود صنف آخر من الدراسات العلمية محدودة النطاق ينجزها بعض الباحثين في علم النفس وعلم الاجتماع. وتنشغل هذه الدراسات بمقاربة تجارب الأشخاص مع العجز والمرض واستراتيجيات التعايش مع أعراضه وآثاره الاجتماعية والنفسية من خلال جمع معطيات ميدانية كمية وكيفية. وتشكل جل المقالات الأكاديمية المنشورة بالمؤلفات الجماعية حول تجارب الأشخاص المعاقين بالمغرب نماذج من هذه الدراسات. إذ يمكن التمييز فيها بين ثلاث اصناف من المقالات. يشكل الصنف الأول مجموعة من الدراسات الوصفية التي تنتمي لحقل علم النفس الاجتماعي وتكتفي بالاعتماد على الملاحظة العينية باعتبارها أداة لوصف الظاهرة المدروسة. ويمكن القول أن مقال الأستاذة لطيفة السرغيني (SERGHINI, 2005) المنجز في إطار مؤلف المغرب الممكن 2005 بالإضافة إلى مقالة الأستاذة خلود السباعي (السباعي، 2017) ومقالة الأستاذ رشيد الكانوني (الكانوني، 2020) نماذج من هذه الدراسات العلمية.
ويتميز الصنف الثاني بهيمنة قوية للمقالات الكمية التي استندت على أرقام ونتائج البحث الوطني للإعاقة ومعظمها دراسات أنجزها باحثين في علم الاجتماع وخبراء في بعض المجالات ذات الصلة بالأشخاص المعاقين تحت طلب بعض الجهات المانحة أو منظمات دولية (النجاري، 2017) (المكاوي، 2017) (DIALMI، 2017)
أما الصنف الأخير من هذه الدراسات فيتميز بكونه يعتمد المنهج الكيفي في جمع وتأويل المعطيات الميدانية بالاستناد إلى أطر نظرية متحررة ولو نسبيا من الفهم الطبي للإعاقة إذ تأخذ بعين الاعتبار دور الشروط المادية والمواقف والتمثلات الاجتماعية في تشكل تجارب الأشخاص المعاقين بالمغرب مع الوصم (khalil, 2017) والتمييز (Lahsika, 2020).
ولعل الملفت للنظر في هذه الكتابات على مختلف أصنافها هو كونها متفرقة وغير منسجمة فيما يشبه خصومة لاإرادية يصعب معها خلق تراكم معرفي وسجالا علميا يقود إلى فهم ظاهرة الإعاقة وتطورها بالسياق المغربي.
وتشير العديد من الأدبيات في حقل الإعاقيات المناهج التقليدية المعتمدة في جمع وتأويل المعطيات الميدانية حول تجارب الأشخاص المعاقين ظلت تحشرهم في مناطق الظل ولا تسمح لهم بإسماع أصواتهم. فإلى جانب القطع مع الفهم التقليدي للإعاقة باعتبارها حالة مرضية فردية وتأويلها كوضعية اضطهاد اجتماعي « oppression sociale » (abberley, 1987) ناتجة حصرا عن الحواجز المعيقة المنتشرة بالمجتمع، وجه رواد حقل الإعاقيات انتقاداتهم إلى مناهج البحث الكمي والكيفي التي يعيد من خلالها الباحثين ولو بشكل غير واعي إنتاج علاقات السلطة والهيمنة اتجاه الأشخاص ذوي العجز لكونها تتأسس على مقولات نظرية تنهل من المعرفة السائدة حول الأشخاص المعاقين والتي ليست إلى مواقف دونية واتجاهات سلبية. ونظرا لشح الدراسات حول مناهج البحث في قضايا الإعاقة بالمغرب، سأحاول في هذا المقال إثارة هذا الموضوع من خلال تفكيك مكونات الاستبيان المشار إليه أعلاه وإماطة اللثام عن تمثل واضعيه وفهمهم للإشكالات المرتبطة بسؤال الإعاقة وعلاقة ذلك بالنتائج المنتظرة واحتمال تأثيرها في تحسين ظروف عيش الأشخاص ذوي الإعاقة.
يتكون الاستبيان الافتراضي من تسع محاور تشمل بالإضافة إلى المعلومات الأساسية، أسئلة متعلقة بالخدمات العمومية والبيئة ونمط عيش الشخص المعاق والمشاركة والمقترحات علاوة على محورين خاصين بولي أمر الشخص ذو الإعاقة. وتتسم معظم الأسئلة بكونها أسئلة مغلقة تحدد الإجابة في عدد محصور من الفئات المحددة سلفا.
ويمكن القول أن الاستبيان يفصح من البداية عن الخلفية النظرية التي أطرت صياغة أسئلته. إذ يهدف السؤال الأول إلى تحديد هوية الجهة التي قامت بتعبئته ويضع لذلك ثلاثة تصنيفات إما: الشخص في وضعية إعاقة وإما ولي أمره وإما جمعية. وفي الحالة الأخيرة نقرأ بين مزدوجتين العبارة التالية:
(نيابةً عن الشخص في وضعية إعاقة في حال عدم تمكنه من ملء الاستمارة بنفسه)
فكما يتضح من خلال العبارة أعلاه، فإن تعبئة الاستبيان من طرف جمعية هو ناتج عن عجز الشخص المعاق. فالشخص وربما قصوره الجسدي أو الفكري أو هما معا هو سبب اللجوء إلى الجمعية لمساعدته على ملأ الاستبيان. فهذه العلاقة السببية بين القصور الجسدي أو الفكري والعجز عن القيام بالأنشطة اليومية هي في الواقع صلب الفهم الطبي لإشكالات الإعاقة. في حين يمكن أن يكون لجوء الشخص إلى جهة خارجية لتعبئة الاستبيان راجع إلى اعتماد صيغة افتراضية غير ولوجة لبعض مستعملي وسائل التواصل الرقمي، أو اعتماد الاستبيان على اللغة العربية بالنسبة للأشخاص المعاقين غير الناطقين بهذه اللغة اللذين يعيشون بالمملكة كما يمكن أن يكون السبب وراء ذلك اعتماد الاستبيان على اللغة المكتوبة بدل اعتماد أنماط تواصل بديلة كلغة الإشارة بالنسبة للأشخاص الصم. وفي الحالات هذه يمكن القول إن السبب وراء عدم تعبئة الشخص للاستبيان في استقلالية مرده عدم توظيف مكتب الدراسات ومعه الوزارة الوصية أنماط تعبير بديلة تمكن من خلق تواصل مع من لا يعتمدون على الأنماط التقليدية وعليه فكان بالأحرى القول عند وضع الاختيار الثالث:
(نيابةً عن الشخص في وضعية إعاقة في حال كانت هذه الاستمارة غير ولوجة لسبب ما)
كما يتجسد هذا الفهم الفردي للإعاقة في المحور الثاني من خلال التركيز على البعد الطبي للإعاقة؛ إذ يتضح ذلك في تحديد أنواع الإعاقة والقصور حسب السؤال رقم 2.6 في ثلاث أصناف إما حسية أو حركية أو ذهنية. وعلى الرغم مما يمكن تسجيله من تطور في تصنيف أنواع العجز بالمغرب خلال العقدين الأخيرين حيث تم تحديدها حسب البحث الوطني الثاني لسنة 2014 في ستة مجالات وهي البصري والسمعي والحركي والذهني والرعاية الذاتية والتواصل، نجد أن واضعي الاستبيان ظلوا رهائن الفهم الطبي الضيق الذي طبع البحث الوطني الأول حول الإعاقة المنجز في سنة 2004 والذي حصر تصنيفا لأنواع العجز في ثلاث فئات كبرى وهي العجز الحسي والحركي و الذهني. ومن آثار الفهم الفردي للإعاقة المبني على البعد الطبي هو تحديد المجالات التي يمكن للأشخاص الولوج إليها وهو ما يتجسد في السؤال رقم 5.7 عندما تم الاستفسار عن توفر الأشخاص في وضعية إعاقة على إمكانية الوصول إلى أنشطة رياضية وترفيهية ملائمة لنوع إعاقتهم. فواضعي هذا السؤال يعتقدون أن ولوج الأشخاص المعاقين للخدمات وتمتعهم بالحقوق ينبغي أن يقتصر فقط على المجالات التي تتلاءم مع نوع العجز. والحال أن المطلب المحوري الذي تدافع عنه حركة الأشخاص المعاقين هو إزاحة كل الحواجز البنيوية والمواقف المعيقة التي تحد من مشاركة الأشخاص مهما اختلفت طبيعة ودرجة عجزهم وليس تأهيل بعض مجالات الحياة مع صنف العجز. فالإعاقة هي نسق معقد من الحواجز البنيوية والثقافية التي ينبغي القضاء عليها دفعة واحدة ودون تجزيئ. ونفس الشيء يمكن قوله على السؤال رقم 5.11 كما يتضح أسفله:
هل يستطيع الأشخاص في وضعية إعاقة الوصول وبشكل مناسب إلى جميع برامج التدريب الأكاديمي والمهني المتوافقة مع نوع إعاقتهم؟
وفي نفس المحور يستمر الاستبيان في الإفصاح عن المقولات النظرية التي يقوم عليها فهم مشكل الإعاقة من طرف واضعيه. فالعجز الجسدي أو الفكري ليس فحسب أصل الاستبعاد من حياة الجماعة، بل إن القيمة الاجتماعية للفرد الحامل لعجز ما لن تستقيم إلا داخل الأسرة باعتبارها البنية الوحيدة الحاضنة له. ويتجلى الأثر الاجتماعي لفهم الإعاقة كخلل جسدي من خلال استفسار الاستبيان في السؤال رقم 1.5 عن مستوى الدخل الشهري لأسرة الشخص في وضعية إعاقة. وصحيح أن دخل الأسرة ( ( household يعتبر محددا أساسيا في كل الدراسات التي تسعى إلى فهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لجماعة ما في الدول النامية. غير أن إدراج هذا السؤال قبل الاستفسار عن الوضعية المهنية للشخص المعاق أولا ربما يتأسس على تمثل لا يرى في الأشخاص المعاقين فاعلين اجتماعيين بإمكانهم العيش بعيدا عن أسرهم. فالشخص ذو الإعاقة هو في حاجة دائمة إلى من يعينه على القيام بالأنشطة اليومية كإعداد الطعام والتنقل إلى الحمام والتبضع. فلو أن الاستفسار عن دخل الأسرة تم إدراجه بعد سؤال الوضعية الأسرية ثم الوضعية المهنية للفرد لكان التسلسل منطقيا ودلالاته ذات جدوى أولا في إعطاء الفرد قيمته الاجتماعية وثانيا في مساعدتنا على فهم مدى مساهمة الفرد في ميزانية الأسرة وتأثير ذلك على بعض جوانب الحياة اليومية من قبيل المصاحبة التي يحتاجها بعض الأشخاص ذوي الإعاقات الثقيلة.
وإلى جانب المتغير المادي، يعد الاستفسار عن الأولوية في الولوج للسكن الاجتماعي مؤشرا آخر عن القيمة الاجتماعية الدونية التي تقوم عليها المنطلقات النظرية لواضعي الاستبيان اتجاه الأشخاص ذوي الإعاقة. فبناء على السؤال رقم 7.6، فالأشخاص المعاقين ليس من حقهم التطلع للعيش في سكن متوسط أو راقي. فلا مكان للقصور والاختلالات الجسدية والذهنية خارج مجتمع الفقر والحاجة والاكتظاظ. ويمكن القول إن القصور الجسدي أو الفكري يعد من وجهة نظر واضعي الاستبيان حاجزا بنيويا أمام الارتقاء الاجتماعي.
أما المحور الخامس الموسوم بخدمات عمومية ملائمة، الذي يمكن اعتباره المدخل الفعلي إلى صلب موضوع الاستبيان فيتسم باستعمال لغة تقنية معقدة وملتبسة أحيانا. فعلى سبيل المثال مفهوم الملاءمة يطرح إشكالات متعددة. إذ يمكن التساؤل عن ملاءمة ماذا مع ماذا؟ هل يتعلق الأمر بملاءمة الخدمات الاجتماعية مع حاجيات الفرد عبر إزاحة المعيقات المادية أم ملاءمة قدرات الفرد مع طبيعة الخدمات المقدمة عبر التأهيل وإعادة التأهيل الصحي. فالأمر لا يتعلق في هذا المقام بمجرد لعب بالكلمات وإنما باختلاف جوهري في فهم جذور المشكل وطبيعة الحلول الممكنة. فالتصور الأول يحيل على تغيير اجتماعي يكون فيه كل الناس متساويين في الولوج لكل الحقوق والخدمات في حين يقوم التصور الثاني على ضرورة الحفاظ على النظام القائم مع تقويم ما يمكن من القصور الجسدي لبعض الأشخاص طالما أن الكلفة المادية لهذا التقويم لا تتجاوز التوازنات الميزانياتية للمجتمع الرأسمالي. في حين وبمنطق اقتصادي صرف يمكن القول بأن تكلفة ملاءمة الخدمات الاجتماعية قد لا تتجاوز كلفة الأظرفة المالية التي يتم صرفها في كل مناسبة لحساب بعض المؤسسات الدولية لتقييم البرامج العمومية.
بالإضافة إلى هذه الإشكالات يعتمد الاستبيان على تصنيفات عامة للخدمات الاجتماعية من قبيل خدمات إدارية أساسية والخدمات المتعلقة بالثقافة والرياضة والأنشطة الترفيهية أو الدعم الاجتماعي والدعم المادي. وهي تصنيفات مجردة ليس دائما من السهل على عدد كبير من الأشخاص المعاقين فهم دلالاتها بالنظر إلى ارتفاع نسبة الأشخاص الذين يصعب عليهم الولوج إلى المدرسة. الشيء نفسه ينطبق على السؤال الرابع في هذا المحور.
إلى جانب التجريد، فإن المحور يعتمد بعض التصنيفات غير القابلة للقياس الدقيق في ارتباطها بمتغيرات أخرى. فعلى سبيل المثال، تحدد الفئات الثلاث المتعلقة بالسؤال رقم 5.2 :
ما مدى قرب الخدمات العمومية من مقر سكنى الأشخاص في وضعية إعاقة؟ الخدمات الإدارية الأساسية الخدمات المتعلقة بالتغطية الصحية والضمان الاجتماعي خدمات الرعاية الصحية خدمات التعليم خدمات التكوين المهني خدمات الإيواء والرعاية الاجتماعيات الخدمات المتعلقة بالثقافة والرياضة والأنشطة الترفيهية
الاختيارات الثلاثة:
إما: قريبة أو متوسطة القرب أو بعيدة.
وبغض النظر عن عدم توفر بلادنا على نظام وطني لقياس الإعاقة والعجز وبغض النظر كذلك عن حدود المنظور التفاعلي للإعاقة أو ما يصطلح عليه بعض الباحثين البعد النفسي الاجتماعي للإعاقة، فإذا استحضرنا درجة العجز المتعارف عليها دوليا في مجال الإعاقة وهي الخفيفة والمتوسطة والثقيلة ، فإن مفهوم القرب والبعد لم تعد محددات يمكن قياسها مجاليا. فإلى جانب البعد المجالي، تصبح المسافة خاضعة لعدد من المحددات الأخرى المرتبطة بالجسد والثقافة والتقنيات. فالمسافة القريبة بالنسبة لشخص حامل لعجز خفيف ليست هي كذلك بالنسبة لشخص حامل لإعاقة ثقيلة. كما تختلف نفس المسافة بالنسبة لشخص آخر لا يتوفر على الإمكانات المادية وربما المعرفية لاستخدام معينات تقنية حديثة. ويبقى قرب المسافة من بعدها غير قابل للقياس الدقيق إذا أخذنا بعين الاعتبار الحواجز البيئية والاجتماعية والمواقف التي تحد كلها من تنقل الأشخاص ذوي الإعاقة وربما تمنعهم منعا كليا من ممارسة الأنشطة اليومية.
ومن أمثلة الحرمان المبني على المواقف الدونية هو ما تعرضت له إحدى المواطنات من الأشخاص ذوي القصور البصري ذات صباح عندما تم منعها من التصرف في حسابها البنكي بدعوة أن إعاقتها البصرية تمنعها من القيام بمختلف العمليات البنكية إلا بإحضار شاهدين اثنين بل واشترط عليها مدير الوكالة البنكية أن يكونا الشاهدين رجلين. وليست هي المرة الأولى التي يعيش فيها الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر مثل هذه المواقف المؤسفة والمضحكة في آن واحد، بل هي تتكرر بمختلف الإدارات والخدمات العمومية كالتوقيع على عقود وركوب القطار واقتناء السكن والسيارة وما إلى ذلك. فالمشكلة هنا ليست المسافة المجالية ولا الحواجز المادية، وإنما يتعلق الأمر بممارسات ومواقف معيقة لا يمكن قياسها بمجرد أسئلة مغلقة ومحددة سلفا. بل يتطلب الأمر التحرر من الفهم الطبي ومغادرة الباحثين لمناطق راحتهم zone de confort) ) و الاقتراب من التجارب المعيشية ومحكيات الأشخاص مع مختلف الحواجز المعيقة.
ويستمر الاستبيان في نفس المنهجية الملتبسة وتبني منطق الحرمان المبني على الإعاقة باعتباره منطقا طبيعيا يستمد شرعيته من هيمنة البنية الفكرية المعيقة للأغلبية من ذوي الأجساد القادرة في المحور السابع الموسوم ب”مستوى عيش لائق وحماية اجتماعية” من خلال السؤال أسفله:
7.1: هل لدا الأشخاص إمكانية الوصول إلى خدمات عمومية للمواكبة من أجل الإدماج المهني، مخصصة للأشخاص في وضعية إعاقة
فالسؤال أعلاه يفترض أن فصل الأشخاص المعاقين من مناحي حياة الجماعة هو ممارسة مشروعة اجتماعيا وأن أفضل ما يمكن تقديمه لهذه الشرذمة من الأشخاص غير العاديين (The abnormals ) هو بعض برامج التأهيل الخاصة لأن قصورهم الجسدي أو الفكري يمنعهم من المشاركة في برامج التكوين المقدمة للأشخاص العاديين ( The normals ) . وفي نفس المحور يستمر واضعوا الاستبيان في حشرنا خارج الجماعة من خلال التساؤل عن ظروف الولوج لخدمات الاستقبال والتوجيه المتعلقة بالعمل الحر كما يوضح السؤالين أسفله. إن الاقتصار على العمل الحر وإغفال الاستفسار عن الأسباب وراء الاستبعاد من سوق الشغل المفتوح يستمد تفسيره من التمثل السائد حول ضعف مردودية وفعالية هؤلاء الأشخاص داخل المقاولة أو الإدارة بسبب عدم امتلاكهم رأسمال معرفي وقوة إنتاج تؤهلهم للمساهمة في دورة إنتاج الثروة؛ وذلك راجع بالأساس لعدم قدرتهم على استخدام وسائل الإنتاج المتاحة بفضاءات العمل من التكنولوجيات وآلات معدة لذوي الأجساد القادرة. والحل ببساطة هو الاستمرار في عزلهم عن ريق العمل الحر باعتباره رديفا للعمالة غير اللائقة under-employment) ) تلك القيمة الاجتماعية المميزة لمجتمع ما بعد الصناعي.
7.3 هل لدى الأشخاص في وضعية إعاقة إمكانية الوصول إلى خدمات عمومية تراعي وضعيات الإعاقة متخصصة في الاستقبال و التوجيه من أجل تشجيع العمل الحر؟
7.4 إذا كانت الإجابة بنعم، ما رأيك في جودة الخدمات العمومية المتخصصة في الاستقبال و التوجيه من أجل تشجيع العمل الحر بصفة عامة؟
ثم ينتهي الاستبيان بمحورين اثنين يحمل أولهما عنوان المشاركة المواطنة المصونة، في حين يحمل المحور الآخر عنوان مقترحات لتحسين جودة الخدمات الموجهة إلى الأشخاص في وضعية إعاقة. وعلى عكس المحاور السابقة التي تميزت بهيمنة مطلقة للأسئلة المغلقة، يتميز المحورين بحضور ملفت للأسئلة المفتوحة إذ يضم المحور الثامن 50 في المائة من الأسئلة المفتوحة علما أن مجموع الأسئلة ينحصر في أربعة في حين كل أسئلة المحور التاسع هي مفتوحة وعددها سؤالين اثنين. وإذا كان الاعتماد على عدد أكبر من الأسئلة المفتوحة عند الاقتراب من نهاية الاستبيان يعد ممارسة محمودة في المنهج الكمي، يمكن القول أن هناك تطورا ملحوظا في فهم مشكلة الإعاقة من خلال تشخيص مصدر الحواجز التي تحد من الولوج للخدمات أو لنقل على الأقل لم يعد القصور الجسدي أو الفكري للشخص هو العائق أمام الولوج الكامل للخدمات، كما يوضح ذلك السؤالين التاليين:
8.1 ما مدى ملاءمة وسائل التواصل والمحتوى السمعي البصري العمومي مع الإعاقة بشتى أنواعها، لا سيما فيما يتعلق بالتواصل في المجال السياسي، خصوصا أثناء الحملات الانتخابية والاستفتاءات؟
8.3 ما مدى ملاءمة الطريقة التي تقام بها عمليات الاقتراع (الانتخابات) مع الإعاقة بشتى أنواعها (إمكانية الوصول إلى مراكز الاقتراع، أوراق الاقتراع، وما إلى ذلك) ؟
يبدو أن واضعي الأسئلة في هذا المحور يمتلكون حسا سوسيولوجيا محترما يأهلهم لاستيعاب أن مشاركة الأشخاص المعاقين هي رهينة بالتحول الاجتماعي العميق الذي لا يتحرج من ملاءمة الأنشطة مع طبيعة العجز. ولن تكون هذه الملاءمة ممكنة إلا من خلال القضاء على جذور المشكل المتمثلة في المعيقات في شتى المجالات على عكس حصرها في مجالات دون أخرى وفي فترات زمنية دون غيرها. وهو المنزلق الذي وقع فيه من جديد واضعي الأسئلة عند الاستفسار عن درجة ملاءمة وسائل التواصل في المجال السمعي البصري؛ حيث تم التركيز على التواصل في الحقل السياسي دون غيره وبالضبط خلال الحملات الانتخابية والاستفتاءات. ويتجلى الإصرار على استبعاد الأشخاص المعاقين حتى وإن كان هذا الإصرار يندرج ضمن الاستراتيجيات المعيقة غير الواعية ذات القدرة الهائلة على الانفلات من عقال الرقابة الذاتية في انشغالنا بقضايا النوع الاجتماعي. ويتيح الاستبيان من خلال السؤالين المفتوحين 8.2 و8.4 الفرصة للمبحوثين التعبير عن تحديد هذه الحواجز وسبل تحقيق المواطنة الكاملة.
إن التحول الذي وسم المحورين الأخيرين في الاستبيان المتجسد في استيعاب أهمية فك الارتباط بين العجز الجسدي والفكري من جهة وبين الشروط الاجتماعية والثقافية والبنيوية في فهم أسباب الولوج المحدود للخدمات العمومية من طرف الأشخاص المعاقين يعد في نظري المنطلق الرئيس الكفيل بإنجاز دراسات إحصائية تساعد في وضع برامج وسياسات عمومية دامجة على المدى المتوسط والبعيد. وهو ما يقتضي تحرر الساهرين على هذه الدراسات من عقال نظرية المأساة الفردية The individual tragidy theory ) ) والاستناد إلى أطر مفاهيمية نقدية قادرة على مساءلة المسلمات النظرية والأطر المعيارية المؤسسة للمعرفة المشتركة المستدمجة والناقلة لمختلف أشكال التمييز والوصم الاجتماعي. وهو ما يعني أن فهم طبيعة وجذور الإعاقة بالمغرب لم يكن ممكنا إلا من خلال تكثيف البحوث الاجتماعية في حقل الإعاقة وتوظيف مختلف المقاربات الكمية والكيفية في جمع وتأويل المعطيات الميدانية للانتقال من الدراسات التشخيصية للأوضاع المعيشية إلى دراسات تبحث في المعاني التي يعطيها الفاعلين الاجتماعيين من ذوي الإعاقة إلى تفاعلاتهم اليومية سواء مع النظم المعيارية والتشريعية أو مع الممارسات والمواقف المؤطرة للفضاء العام والخاص.
Abberley, P. (1987). The concept of oppression and the development of a social theory of disability. Disability, handicap & society, 2(1), 5-19.
ABDESSAMAD DIALMI. (2017). BESOINS, PRATIQUES ET REPRESENTATIONS DE la sexualité des personnes en situation de handicap au maroc. تأليف خلود السباعي، وضعية الإعاقة في المغرب: الأبعاد النفسية، الاجتماعية، والتربوية.
colin barnes. (2014). An Ethical Agenda in Disability Research: rhetoric or reality?
jamal khalil. (2017). Le HANDICAP : Représentations et perceptions des personnes en situation de handicap au Maroc.
Khalid Lahsika. (2020). Corps en situation de handicap : Perception de soi et construction Politique d’une revendication. تأليف خلود السباعي، الأشخاص في وضعية إعاقة وقضايا الدمج .
LATIFA SERGHINI. (2005). Une figure de l’exclusion : le handicap. تأليف 50 ans de développement humain & perspectives 2025 :. rabat. تم الاسترداد من http://www.rdh50.ma/fr/pdf/contributions/GT7-5.pdf
خلود السباعي. (2017). الأسرة، الإعاقة، والدعم السيكواجتماعي. تأليف خلود السباعي، وضعية الإعاقة في المغرب: الأبعاد النفسية، الاجتماعية، والتربوية.
رشيد الكانوني. (2020). التمثلات النفسية الاجتماعية حول الإعاقة وانعكاساتها على بنية وأدوار وعلاقات أسر الأشخاص ذوي الإعاقة. تأليف خلود السباعي، الأشخاص في وضعية إعاقة وقضايا الدمج .
زينبة النجاري. (2017). وضعية الإعاقة ومؤشرات الفقر في الوسط الحضري المغربي: الإعاقة الذهنية نموذجا. تأليف خلود السباعي، وضعية الإعاقة في المغرب: الأبعاد النفسية، الاجتماعية، والتربوية.
محمد المكاوي. (2017). أثر الدمج المدرسي الشامل على شخصية الأطفال ذوي الإعاقة من وجهة نظر الأساتذة. تأليف خلود السباعي، وضعية الإعاقة في المغرب: الأبعاد النفسية، الاجتماعية، والتربوية.