ترددت على عناوين صحف العالم أخبار أول منتخب عربي إفريقي مسلم يصل إلى نصف نهاية كأس العالم. كان تلك حملة تعريف هائلة بالبلد. حصل المغرب على مديح غير مسبوق… تلقى المغاربة التهاني من كل شعوب العالم. شوهد أمير قطر يرفع الراية المغربية وقدمت والدة الأمير هدية للاعبين المغاربة… شاركت الشرطة المغربية في تأمين المونديال… عمل المنتج والموسيقي المغربي ريدوان مديرا تنفيذيا للترفيه الإبداعي في المونديال… انتشرت صور احتفالات في إندونيسيا وغزة وباريس وبروكسيل وأوتاوا ونيويورك… تلقى الملك محمد السادس تهاني قادة عدة دول. شوهد الرئيس الأمريكي يتابع مقابلة المغرب ضد فرنسا مع رئيس الوزراء المغربي.
حظى المنتخب المغربي بدعم عربي شديد. رقص المغاربة لفوز المنتخب السعودي على الأرجنتين وحصلوا على نفس الجائزة.
حصل البلد على تسويق غير مسبوق من بلد لا يعرف تسويق نفسه أصلا… تلقى حارس المنتخب ياسين بونو مديحا وغزلا وشهرة يتعذر وصفها… مرت الأيام وارتفعت التوقعات. سيغير هذا المونديال منظور الكثير من المغاربة لأنفسهم وللعالم، سيحررهم نفسيا وسيشحذ عزيمتهم في حياتهم اليومية.
ثم وصل النقاش حول المنتخب أصعب نقطة: من هو هذا المنتخب؟
أجابت جريدة الباييس الإسبانية “المغرب في نصف النهائي كأن العالمين العربي والإفريقي هما اللذان تأهل”.
أجاب مدرب المغرب وليد الركراكي: “نحن نمثل المغرب، ونود أن نعكس صورة للعالم لمن يجهلون ثقافتنا ولعبنا ومن أين أتينا؟ وكيف نعامل أمهاتنا وزوجاتنا”.
كان مونديال قطر فرصة إشعاع للبلد، فرصة فرح لعشرات ملايين المغاربة بعد الوباء والجفاف والغلاء، وفي هذا الخضم ارتفعت أصوات مغربية تعارض هذا التعريف، ظهر رئيس “التجمع العالمي الأمازيغي” يندد بعنصرية الإعلام العمومي المغربي الذي يصف المنتخب المغربي بأنه منتخب عربي. هكذا صارت الكرة والفرح مسألة هوية.
بدل الترفع عن هذا الجدل وإنكاره يجب مواجهته ومحاصرته في عتمته الصغيرة لأضاءته وتبديده. وهذا هو هدف هذا المقال.
كيف تصير مقابلة في كرة القدم سببا لجدل هويات عرقية ودينية وجنسية، وصدام حضارات، وعلاقات شعوب؟ هل هذه القضايا مضغوطة وسط قطعة الجلد المستديرة المنفوخة أم هي سجالات مخزنة في رؤوس البشر المستديرة التي تتدحرج أكثر من الكرة؟
الجواب النظري:
الكرة بريئة، البشر الباحث عن فرصة انتهازية للّمعان هو مصدر الجدل ويزعم هذا التيار أن التفاخر بالبعد العربي والإسلامي للمغرب هو “استلاب فكري وهوياتي”.
الجواب العملي:
عمليا لم يقل أي لاعب أن المنتخب المغربي ليس عربيا، فمن خول ذلك الشخص الحديث باسم اللاعبين؟
من أولئك اللاعبين الحارس ياسين بونو الذي أصر في ندوة صحافية، قبل المونديال، على إجابة الصحافة الأجنبية بالعربية. لم يدافع أي لاعب عن نزعة مركزية شمال افريقية تختزل الهوية في اللغة وتتجاهل العربية والدين الإسلامي… لقد كان سجود اللاعبين في نهاية كل مقابلة تعبيرا واضحا عن الانتماء الإسلامي. للتذكير: ياسين اسم سورة في القرآن.
هذا سلوك وكل خطاب مزايدة.
يحق للناس اختيار هوياتهم، وتصنيف منتخب شمال أفريقي بأنه أمازيغي حصرا هو مصادرة حق أعضاء هذه المنتخب في تعريف هويتهم بأنفسهم.
هذا هو الواقع، لكن مع كل فوز يخرج عرقيون يرددون: منتخب أمازيغي شمال أفريقي، منخب غير عربي غير إسلامي. يستغل هؤلاء المؤدلجين العرقيين الحدث الكروي للخروج من الظل ومحاولة فرض تصورهم الضيق للهوية على الآخرين.
في أكتوبر 2022 وبينما كان المخرج محمد بوزكو، يصور فيلما عن انتصار المغرب على الإسبان في حرب جرت سنة 1921، رفض المتمسكون بهوية مغربية قبلية بأن يؤدي الممثل ربيع القاطي دور المقاوم عبد الكريم الخطابي في الفيلم بدعوى أن الممثل ليس أمازيغيا.
خسروا المعركة لإن الممثل لا يمثل بلسانه فقط إنما أيضا بوجهه وملامحه، و أكبر شاهد على ذلك من السينما العالمية هو دور “عمر المختار” 1981 الذي أدّاه بنجاح أنطوني كوين في فيلم مصطفى العقاد “أسد الصحراء”.
والآن بعد انطفاء جدل هوية الممثل، وبمناسبة المونديال يحاول هؤلاء “الشوفينيون” الركوب على أفراح الناس لفتح معركة جديدة بنفي عروبة منتخب أسود الأطلس. المؤسف أن صوت المؤدلجين قوي في الإعلام، والمفرح أن صوتهم ضعيف في الواقع.
ارتفع منتخب المغرب إلى نصف النهائي في مونديال قطر، ونزل النقاش حول المنتخب أصعب نقطة: من هو هذا المنتخب؟
ظهرت أصوات شوفينية تريد تصنيف المنتخب عرقيا وقبليا. العالم يدعمنا ونحن ننكمش. هذا رد فعل سلبي انعزالي على الانتصار بربط المنتخب بمنطقة جغرافية… مؤدلجون يتمسكون بأفق جغرافي محدود على حساب أفق حضاري مفتوح على الإنسانية.
إن الأمازيغية مُكوّن أساسي للثقافة الوطنية المغربية لكنها ليست المكون الوحيد، أنا مغربي أعيش فرحة غير مسبوقة وحدثا سيكون له تأثير جيوستراتيجي على المدى الطويل.
شخصيا تحدثتُ اللغة الأمازيغية منذ الصغر وتعلمت العربية في المدرسة وأكتب بها وأعرف نفسي كمغربي عربي أفريقي مسلم، وهذه هوية جامعة. وبالتالي أسد الباب على كل من يسأل:
هل أنت عربي أو أمازيغي أو أخواني أو سلفي؟
هذا سؤال فخ.
إن الذين يحتفلون مغاربة، والذين يتضامنون معهم في كل العالم يعرفونهم: مغاربة.
إن صمام الأمان ضد هذا الفخ والمنزلق هو تعريف المغربي لنفسه بكلمة واحدة: مغربي ويمثل المنتخب المغربي شمال أفريقيا والعرب وإفريقيا والمسلمين.
هذا هو الجواب الذي يتنفسه الناس في الشارع: هذا مغرب متعدد بمكونات هويته. ويتعزز هذا بتوالى التعاليق على مواقع التواصل الاجتماعي، تدحض الشوفينية وتؤكد على المغرب المتعدد الذي يقع في ملتقى اللغات والقارات والبحار والهجرات والديانات وقد هضم كل هذا في هوية واضحة: مغربية.
الهويات متعددة وقد رصد الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري شبانا ولدوا في فرنسا يحتفلون بالنصر المغربي على البرتغال وتعجب من “أنهم شبان لديهم وثائق جنسية فرنسية بقلوب مغربية”.
حررت هذا المقال بينما أنتظر بداية مقابلة نصف النهاية بين المغرب وفرنسا. ألاحظ وجوها تنتظر وقلوبا تنبض، خوف رهيب في الحقيقة لا نخاف من الخسارة بل نخاف من فقدان الإشعاع العالمي للمغرب، وهذا حدث يجمع بين فرحة الشعوب والتنافس الجيوستراتيجي بين الدول والأمم.
لقد كشف المونديال صراعا وتنافسا متعدد الأبعاد، عالمي وجهوي ومحلي.
البعد الأول عالمي بين العالم العربي الإسلامي والغرب (تم التشكيك طويلا في استحققاق العرب لتنظيم نهاية كأس العالم، ثم أرسل الرئيس ماكرون وزيدته في الرياضة بقميص قوس قزح إلى الدوحة لتتفرج ثم جاء بنفسه إلى قطر لكي يتحقق من مستوى التنظيم). لقد قدم مونديال 2022 صورة أخرى عن العرب والخليج غير تلك التي كشفها إدوار سعيد في كتابه “الاستشراق” 1978.
البعد الثاني عربي عربي مثل الذي جرى حين منع النظام الجزائري بث أخبار انتصار منتخب المغرب مع معاقبة مدير التلفزيون الذي خرق المنع.
البعد الثالث داخلي في دولة واحدة مثل المغرب بين النزعة الانغلاقية وتلك التي تحتفي بالتعدد العرقي والثقافي للبلد.
بدل الترفع عن هذا الجدل يجب بحث كيفية تجاوزه ولهذا سوابق، فعندما فاز منتخب فرنسا بكأس العالم في 1998 بلاعبيه من أصول إفريقية تلقى اليمين العرقي الفرنسي ضربة قاتلة. وهذا درس وإنجاز وتحول سياسي اجتماعي تحققه كرة القدم بأقل التكاليف ضد المهووسين بهوية صرفية صرفة.
سيكون لمونديال 2022 تأثير كبير على نقاش الهوية في المغرب.
ستتلقى النزعة الشوفينية الأحادية ضربة قاضية.
هذا منتخب مغربي عربي إفريقي مسلم. هذا التعدد غنى وخصوبة. هذا مركب قوة لا مركب نقص.
مغربي تعني أمازيغعربي. في كلمة واحدة.
يمكن للكرة أن تكون مفيدة في تجديد تعريف الهويات وتسامحها. هذه النقاشات الآن في المغرب مع المتمسكين بهوية مغربية ضيقة قبَلية ستصعقهم وتفضحهم. كل هذه الطاقة الإيجابية التي تشع من المغرب نحو العالم ستكون منتجة.
الكرة فاعل جيوستراتيجي. لن يغطي جدال الهوية الميكروسكوبي على الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي. العالم مبتهج. الرئيس جون بايدن يتسلم قميص المنتخب في واشنطن. النتيجة سيغير هذا المونديال منظور الكثير من المغاربة لأنفسهم وللعالم، سيحررهم نفسيا وسيشحذ عزيمتهم في حياتهم اليومية. سيتقوى الأثر كلما احتفلت الشعوب الأخرى بنصر هذا المنتخب المغربي العربي الإسلامي الأفريقي.
هذه مرافعة من أجل مغرب متعدد ضد أنصار البعد الواحد.
هذا المغرب أمازيغعربي أفريقي مسلم. يمكن لكل واحد ان يرتب الصفات الأربعة كما يريد، لكنه سيعتدي على الغير حين يريد حذف إحداها. إن الهدف من هذا المقال هو الدفاع عن هوية مغربية بروافد متعددة أمازيغية عربية إسلامية إفريقية تصب في نهر المغرب.