صحافة البحث

أهلية الأشخاص المعاقين أم تقييد الولوج الكامل؟ تمييز مؤسساتي تحت ذريعة الحماية

- الإعلانات -

نظم المجلس الوطني لحقوق الإنسان بشراكة مع وزارة التظامن والأسرة والتنمية الاجتماعية، خلال الأسبوع المنصرم، ندوة وطنية حول الأهلية القانونية للأشخاص المعاقين. وتشير أرضية اللقاء إلى أن أهلية الأشخاص المعاقين شكلت في القانون الدولي موضوع خلاف بين الدول الأطراف، إذ يرى الفريق الأول أن الأهلية هي جزء لا يتجزء من كينونة الفرد، وبالتالي يجب الاعتراف بها كاملة لكل الأفراد بغض النظر عن أوضاعهم الجسدية. في حين يدافع الفريق الآخر عن ضرورة تقييد هذه الأهلية في بعض الحالات المرتبطة خصوصا بالإعاقة الذهنية والإعاقة النفسية. وهي الحالات التي يكون فيها تمييز الفرد وإدراكه لا يوافق النمودج المعياري المقبول اجتماعيا حول هذين المبدأين. الشيء الذي دفع بالدول إلى التمييز بين أهلية الوجوب وأهلية الإداء موضوع التقييد. ويبدو أن حقل الإعاقة يعد أحد آخر ساحات الصراع الاجتماعي بخصوص أهلية الأفراد إذ لطالما حاولت المجتمعات البشرية تقييد أهلية بعض أفرادها سواء تعلق الأمر بالنساء في المجتمعات الأبيسية، أو جماعة الرقيق في المجتمعات الفيودالية أو حتى المهاجرين في مجتمعات الاستقبال.

وبينما تحاول أرضية الندوة، ولو تلميحا حصر انطلاق النقاش العمومي حول أهلية الأشخاص المعاقين في مقاربة مؤسساتية تقنية محظة مرتبطة بتطور التشريعات والبرامج المهيكلة التي يعرفها المغرب، ينبغي التذكير  في مستهل هذه الورقة بأن إقرار الاتفاقية الدولية للأشخاص المعاقين تم عبر مقاربة جديدة وخلاقة ساهم من خلالها الأشخاص ذوي الإعاقة ومنظماتهم في تطوير فصولها وتتبع إعمال مقتضياتها على اعتبار أنهم أكثر الخبراء معرفة بحاجياتهم وسبل الاستجابة لها. وعليه فإن كل محاولة تأويل مقتضياتها – من حيث هي الحد الأدنى المتفق عليه بين كل الدول – مع السياقات الثقافية والاجتماعية الوطنية لا مناص له الاعتراف بالدور المحوري لهؤلاء الأشخاص ومنظماتهم في إماطة اللثام عن أشكال التمييز والوصم الاجتماعي الذي يعيشونه باستمرارّ؛ والاستفادة مما طوره هؤلاء الأشخاص من استراتيجيات دعم اجتماعي خلاقة؛ واعتمادهم على التقنيات البديلة لتجاوز هذه الحواجز.

ويقتضي الاعتراف بأهمية تجارب الأشخاص المعاقين أولا عدم الاستمرار في القول بأن فتح النقاش العمومي حول أهلية الأشخاص المعاقين مرتبط حصرا بالتطور الذي تعرفه الأطر المعيارية والقانونية كقانون مدونة الأسرة وتطوير نظام الحماية الاجتماعية، بل إن الاعتراف بالتجارب المعيشية للأشخاص يقتضي قبل كل شيء التأكيد على وجاهة وشرعية الديناميات الاجتماعية التي يقودها عدد من النشطاء من ذوي الإعاقة وأسرهم ومنظماتهم في فضح التقييد غير المبرر للأهلية الكاملة في مختلف المجالات.

ولعل من بين أبرز هذه المحطات النضالية هي الانتفاضة التي أطلقها منذ قرابة سنة بعض الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر ضد التقييد غير المبرر لمشاركتهم الاجتماعية في مختلف مجالات الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية. وقبل الاستمرار في هذا الحديث، ينبغي التنبيه أن الغاية من تخصيص هذا المقال لأهلية الأشخاص المعاقين بصريا دون غيرهم ممن تقيد أهليتهم تحت أي ذريعة لا يرمي إلى بلقنة حركة الإعاقة بالمغرب. فمعركة الحقوق هي كل لا يقبل القسمة، وأن الدولة أولا والمجتمع مطالبين بالاعتراف لكل الأشخاص المعاقين بأهليتهم الكاملة وينبغي اتخاذ كل التدابير الاجتماعية والتقنية لضمان ممارسة هذه الأهلية. وفي سبيل ذلك ينبغي التفكير في الموضوع من خارج الصندوق فكما يقول الفنان المصري عادل إمام في فيلم الأفوكاتو: “إن النازلة تحتاج إلى ضمير وليس إلى قوانين”.

فبعد معركة المطالبة بضمان الحق في التنقل الآمن والمستقل في وسائل النقل العمومي، عقب الحدث المؤلم الذي راح ضحيته ذات ليلة أحد الشبان المكفوفين على متن “قطارات الخليع” واعتماد خدمة المرافقة الفردية للأشخاص محدودي الحركة؛ وعلى الرغم من الحواجز التي مازالت تعترض هذه الخدمة والمرتبطة بنوعية الخدمة ومحاولة التخلي عنها في بعض محطات المدن الصغيرة والمتوسطة خصوصا بعد انتشار جائحة كوفيد-19، وما رافق ذلك من نزوح المكتب الوطني للسكك الحديدية إلى الحد من عدد المستخدمين تحت ذريعة تقليص مخاطر الإصابة بالفيروس التاجي، بينما يعلم الجميع أن الأمر يتعلق باختيارات متصلة بتدبير الموارد البشرية بالمقاولة النيوليبرالية للتقليص من الكتلة الأجرية والرفع من الإرادات. فبعد هذه المعركة، وجد معظم الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر أنفسهم في مواجهة شكل آخر من أشكال التضييق المتزايد على المشاركة الاجتماعية الكاملة وهذه المرة مع الولوج للخدمات البنكية. وعلى الرغم من أن هذا التضييق ليس من الممارسات المستحدثة، إذ ظل يخضع منذ سنوات طويلة للكثير من الوصم المبني على الإعاقة، خصوصا عند أول لقاء قصد فتح الحساب البنكي حيث يشترط المسؤولين عن الوكالات البنكية على الزبون ذي الإعاقة البصرية احضار شاهدين اثنين وتوقيعهما التزام مصادق عليه من طرف السلطات لمرافقته في تدبير حسابه البنكي وكل معاملاته المالية. وحجتهم في ذلك ما تنص عليه دوريات بنك المغرب الرامية لحماية الزبون وضمان أقصى درجات الشفافية المالية. في حين، ينفي مسؤولي البنك المركزي نفيا قاطعا إصدار أية دورية في هذا الشأن بدعوة أن البنك لا يتدخل في بنود العقد بين الزبناء والمؤسسات البنكية، لأن العقد شريعة المتعاقدين كما تقول القاعدة الفقهية.

وإذا كانت، بالأمس القريب، هذه التدابير الحمائية مقبولة على مضض من طرف بعض الزبناء المكفوفين بسبب انعدام البدائل لضمان الحماية أو لقبول الحجج المبررة لهذه الممارسات إما بسبب استدماج الاضطهاد الاجتماعي من طرف بعض الأشخاص ذوي الإعاقة وإما بسبب ارتفاع مخاطر التعرض للنصب أو التدليس. غير أن المتغيرات التي طرأت على تجارب الأشخاص المكفوفين المتمثلة في ارتفاع نسبة الأشخاص المتمدرسين والولوج المتزايد  إلى سوق الشغل المفتوح وما يرافق ذلك ولو فرضا الولوج إلى مناصب المسؤولية الإدارية واعتماد نسبة كبيرة من الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية  من مختلف الأعمار على التقنيات الحديثة في تدبير شؤون حايتهم اليومية بالإضافة إلى ارتفاع الوعي عند معظمهم بمبادئ حقوق الإنسان والتأويلات الحديثة لأسباب التمييز التي يتعرضون له ، كلها عوامل جعلت أشكال الحماية التقليدية محط مساءلة ورفض وإعطائها دلالات أخرى.

ففي الوقت الذي يدعي فيه مستخدمي الأبناك أولا تطبيق القواعد القانونية وإعمال التدابير المسطرية الهادفة لضمان أقصى درجات حماية الزبون وتقليص احتمالات تعرضه للخطر حتى من طرف المستخدمين، يرى معظم الأشخاص المكفوفين أن هذه التدابير الحمائية هي شكل من أشكال التمييز المؤسساتي الذي يقود إلى تقييد أهلية الفرد علاوة على أنها قد تؤدي إلى الكثير من المخاطر الإضافية والمتعلقة بحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي للفرد، وأخيرا فإن تكلفة هذه التدابير على الرابطة الاجتماعية قد تكون مرتفعة جدا ويتحمل أعبائها الشخص المعاق دون غيره. وهو المنطق الذي يرفضه مستخدمي الأبناك بطبيعة الحال بدعوة أنهم يعترفون بأهلية الأشخاص ويضربون لذلك مثلا قدرتهم على متابعة الدراسة ونباهتهم في الحوار والتواصل فكل ذلك لا ينقص في الأهلية من شيء.

بين إعمال القوانين لحماية الزبائن، وتقييد الأهلية، هوة سحيقة ينبغي فهم دلالاتها وتفكيك خيوطها لمعرفة القواعد الاجتماعية المتحكمة في تشكل المواقف والممارسات الاجتماعية اتجاه ولوج الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية للخدمات البنكية. وهو ما يقتضي البحث في هذه القوانين والمساطر حتى نتتبع جذور التمييز المؤسساتي إن وجد، وهل يتعلق الأمر بتمييز نسقي فعلي؟ أم أن الأمر مجرد وصم اجتماعي يقود إلى ممارسات تمييزية غير واعية تتحكم فيها مجموعة من التمثلات الثقافية المترصبة حول الأشخاص المعاقين. تلك الممارسات التي لا تكفي حملات إذكاء الوعي حولها حتى تختفي وإنما ينبغي إقرار عقوبات جزائية في حق كل من يسعى إلى تطبيقها ولو عن غير قصد.

يخضع موضوع الأهلية في السياق المغربي لمقتضيات القانون المدني، وعلى رأسها مدونة الأسرة وبالضبط الكتاب الرابع في المواد 213 – 224. وتميز مدونة الأسرة بين أهلية الوجوب وأهلية الأداء. تحيل الأولى على الاعتراف بأهلية الأشخاص أمام القانون وتحيل الأخرى على قدرة الشخص في تحمل المسؤولية في كل معاملاته القانونية وهي ملزمة له شخصيا. تقوم هذه الأخيرة على ملكة التمييز والإدراك. فإذا اختلت هذه الملكة أو ضعفت تناقصت معها أهلية الأداء وتحدد مدونة الأسرة في المادة 213 الحالات التي تعد فيها أهلية الأداء ناقصة ويتعلق الأمر بالطفل الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد، والسفيه والمعتوه. وتنعدم هذه الأهلية عند الصغير غير المميز والمجنون. وفي كل هذه الحالات يجب إثبات نقوص أو انعدام الأهلية بحكم قضائي صريح. كما يشترط قانون مدونة الأسرة إشهار الحكم بالوسائل التي تراها المحكمة ملائمة. ويتبين من خلال قراءة منطوق مدونة الأسرة أن الإعاقة البصرية لا تعد من القرائن الموجبة لنقص أو انعدام أهلية الأداء. وعليه فيمكننا أن نفترض مبدئيا غياب أية قرينة على وجود تمييز مبني على أساس الإعاقة في ما يتعلق بأهلية الأشخاص المعاقين بصريا في القوانين المغربية، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تشترط الأبناك حضور شاهدين؟ فهل يتعلق الأمر بممارسة واصمة خارجة عن التشريع؟ أم أن هناك جذور عميقة لهذه الممارسة؟

من خلال البحث في التشريع المغربي، نجد أن المحررات الموجب إثباتها  لتوقيع شاهدين ومصادق عليها من طرف قاضي أو موثق أو موظف عمومي، مأدون له بذلك، هي العقود المتضمنة لإلتزامات شخص أمي حسب المادة 427 في القسم السابع من قانون الاإلتزامات والعقود،  ويجب أن يكون التوقيع بيد الملتزم نفسه ولا يقوم الطابع أو الختم مكانه حسب المادة 426. فالتوقيع باليد حسب المادة 427 هو قرينة على علم الشخص الموقع بفحوى العقد. غير أن إحدى الوقائع المرتبطة بدعوى تقدم بها المتعاقد عليه يطالب بإبطال عقد البيع بسبب جهله لمضمون العقد نظرا لعدم معرفته القراءة والكتابة دفعت محكمة النقد سنة 1976 إلى إعادة النظر في مفهوم الأمي حيث أصبح هذا المفهوم يحيل على من لا يقرأ اللغة التي حرر بها العقد[1].

ولقد افترض أحد  الباحثين[2] أن عدم القدرة على قراءة مضمون العقد هي خاصية يشترك فيها الأمي مع الشخص الأعمى. وهو ما دفع من جديد محكمة النقض سنة 2006 إلى الإقرار بإبطال حكم قضائي صادر في قضية أخرى يدعي فيها المدعى عليه عدم علمه بفحوى العقد الذي وقع عليه بسبب عماه. ويشير الباحث أن المحكمة قد استند في قرار الإبطال  على الفصل 54 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أسباب إبطال العقود والالتزامات والتي من بينها حالات المرض والحالات المشابهة. وفي الوقت الذي لم تدرج القوانين الوضعية صراحة الإعاقة بمختلف أصنافها ضمن الحلات المشابهة كسبب من أسباب إبطال العقود؛ يبدو أن المجلس الأعلى (محكمة النقض) قد استند في اجتهاده على قواعد ومبادئ الفقه الإسلامي لكونه المصدر الثالث من مصادر التشريع في اعتبار العمى من الحالات المشابهة الموجبة لبطلان العقود وقد حسن بذلك صنعا حسب الباحث. حيث ورد في أحد مراجع الفقه المالكي[3] ما مفاده أن العقود المبرمة من طرف أشخاص معاقين بصريا لا تصح إلا مع وجود شاهدين يقرّان بقراءة مضمون العقد على الطرف العاجز عن القراءة.

ويبدو مما سبق أن موضوع أهلية الأشخاص المعاقين عموما، والأشخاص ذوي القصور البصري على وجه خاص، تخضع لنسق معقد من القواعد المعيارية والتشريعية المؤسسة على تصور تقليدي، ليس فحسب للإعاقة، وإنما للفرد ومختلف الممارسات الاجتماعية. فمن جهة تحيل الإعاقة على المرض والعجز، ومن جهة يفهم بالكتابة تلك المضامين المنظمة المكتوبة على ورقة بخط اليد كما تحيل القراءة على ملكتي البصر والفهم دون غيرهما. فإذا نقصت إحدى هاتين الملكتين، يفقد الشخص قيمته الاجتماعية كذات فاعلة ويصبح خاضعا لأدوات الضبط الاجتماعي حيث تصير كل ممارساته وسلوكاته عديمة الشرعية اللهم إذا تمت تحت إمرة من تعتبرهم الجماعة فاعلين قادرين على الحفاظ على النظام الاجتماعي من خلال إقامة علاقات مشروعة وتفاعلات سليمة اجتماعيا. بل وكلما حاول الفرد غير القادر على الانعتاق من عقال هذا الضبط، يستحدث المجتمع عبر مختلف مؤسساته قواعد تنظيمية لتشديد المراقبة واختزال الفرد في سيمته الجوهرية، التي غالبا ما تكون سيمة جندرية متصلة بالجنس أو الوضع الاجتماعي أو الإعاقة.

فعلى سبيل المثال نقرأ في مشروع ميثاق يعده بنك المغرب بشراكة مع المجموعة المهنية للأبناك بالمغرب حول ضمان الولوج للخدمات البنكية في إحدى الفصول المتعلقة بفتح حساب بنكي وتدبيره أن الزبون ذي الإعاقة مخير بين ثلاث حالات: إما أن يكون مسؤولا عن تدبير حسابه البنكي لوحده؛ وإما بمعية شاهدين اثنين يرافقانه في القيام بكل معاملاته المالية؛ وإما أن يعيّن وكيل من اختياره يكون مسؤولا على تدبير الحساب والعمليات البنكية. وفي الحالة الأولى يكون الشخص مطالبا بتوقيع التزام يتحمل فيه مسؤولية تدبير حسابه. ومن جهتها استبقت المؤسسات البنكية إعمال هذا الميثاق من خلال مطالبة – حوالي ثمانين شاب وشابة من ذوي القصور البصري، التحقوا حديثا بالوظيفة العمومية وكل المواطنين والمواطنات حاملي بطاقة الراميد، الذين التحقوا مؤخرا بنظام الضمان الاجتماعي- توقيع نموذج التزام يعبر فيه الشخص عن رغبته في تدبير حسابه البنكي بنفسه رغم الإعاقة البصرية التي يعاني منها ويخلي مسؤولية المؤسسة من كل عملية يقوم بها على هذا الحساب.

هناك ملاحظتين اثنتين يمكنا تسجيلهما على  توقيع الإلتزام كأحد الاختيارات المشار إليها في مشروع الميثاق. فإذا كانت المطالبة بإحضار شاهدين اثنين أو بوكيل لفتح الحساب البنكي قد تستند شرعيتها من قواعد تنظيمية بدائية، فإن مطالبة الزبون ذي الإعاقة بتوقيع إلتزام دون غيره من الزبناء هي تمييز غير مبرر مبني على أساس الإعاقة. بل وأكثر من ذلك فهي تدبير يهدف إلى معيرة هذا التمييز المبني على فوارق جسدية. أولا بدفع الزبون تحت الإكراه للاعتراف بأن أصل صعوبة الولوج للخدمات البنكية هو القصور الوظيفي؛ وثانيا إقراره بذلك أمام القانون. لقد أصبحنا الآن أمام جريمة نسقية كاملة الأركان توجب على من يرتكبها أشد العقوبات ولمن يتعرض لها تعويضا ماليا سخيا.

ويبدو أن البواعث الخفية وراء منطق الحماية غير المبرر هو الخوف من النصب والتدليس في الاتجاهين معا. فالمؤسسات البنكية تخشى أن تصبح ضحية إدعاءات باطلة من طرف بعض الأشخاص المكفوفين، أو أن يصبح هؤلاء ضحايا مفترضين لبعض المستخدمين عديمي الذمم. أقول منطق غير مبرر لأن الشكايات الوافدة على بنك المغرب -على ما يبدو-  لا تتضمن هذا الصنف من الادعاءات. بل وقد يكون منطقا انتقائيا عكس منطق القاعدة القانونية التي تكون عامة. فمثلا هناك نسبة كبيرة من زبناء الأبناك لا تعرف القراءة ولا الكتابة وبالتالي فيفترض أن تكون هي الأخرى إما ضحية أو متهمة بالنصب والتدليس غير أنها لا تتعرض لهذا التضييق في الولوج للخدمات البنكية.

في الواقع، إن الاعتراف بالأهلية الكاملة للأشخاص المعاقين وضمان ولوجهم لمختلف الخدمات الإدارية ولوجا مستقلا وكاملا يقتضي قبل كل شيء الإقرار بأن سبب الاستبعاد من مجالات الحياة اليومية، ليس هو القصور الجسدي، وإنما هي الحواجز البنيوية والمواقف الدونية المترسخة في البنيات العميقة للمجتمع. فلسنا معاقين بسبب إعاقتنا مهما كانت أصنافها ودرجتها. وإنما نحن معاقون بسبب منظومة القيم والممارسات التي لا تراعي حاجياتنا. ومن أجل تغيير هذا الواقع نحتاج إلى تغيير اجتماعي عميق يقوم على الاعتراف بإنسانيتنا الكاملة. وتعد  إعادة النظر في النظام البيروقراطي القائم أحدى أهم المداخل الرئيسة لهذا التغيير من خلال الاعتماد على التكنولوجيات البديلة. فمثلا ما الذي يمنع من رقمنة مساطر فتح وتدبير الحساب البنكي بصيغ ولوج، كاعتماد التوقيع الإلكتروني أو الشبابيك المصرفية الناطقة أو استخدام الكاميرات المثبتة داخل الوكالات البنكية لتوثيق العمليات المالية، وما الذي يمنع من اعتماد تطبيقات سهلة الولوج معدة باحترافية مقبولة. قد يقول قائل: أن هذه المعدات مكلفة جدا. نعم إنها مكلفة ولكن كلفتها لا تتعلق بالميزانيات المرصودة لها، وإنما بمحاربة التمثلات الصَّدئة المعششة في أذهان بعض أصحاب القرار. وإلا كيف نفسر مثلا اعتماد شبابيك مصرفية لمسية وهي من أحدث التقنيات، تكون سهلة الولوج إذا تم تثبيتها تثبيتا احترافيا بتنشيط كل اعداداتها المتعلقة بالولوجيات. لكننا كزبناء مكفوفين عندما نقف أمامها نجد معظمها للأسف لا تتوفر على ولوج. فالتفسير الوحيد الممكن هو أن الجهة المسؤولة عن تثبيت الشبابيك لم تستحضر وجودنا رغم أننا ندفع جزءا من راتبها نهاية كل شهر. وفي هذه الحالة نكون أمام تمثل اجتماعي وثقافي اتجاه الإعاقة يقود إلى حرماننا من الولوج للخدمات المقدمة لعامة الناس ولوجا مستقلا، وهو ما يُكرهنا على طلب مساعدة الآخرين؛ ويصبح هؤلاء على اضطلاع كامل عن معطياتنا الشخصية الحساسة جدا وعمَّا في جيوبنا. ويوما ما قد لا يتحرجون في مطالبتنا بسلف أو تدويرة مقابل هذه المساعدة. ونكون عندها في موقف محرج إما الأداء كاش، أو نفقد هذه المساعدة “النوبة الجاية”. وكما يقول المثل الشعبي: “الله ينجيك من الجاية والله يحد الباس”. ولتفادي كل هذه المعاناة وضمان الولوج العادل والكامل لكل الخدمات الاجتماعية، ينبغي في اعتقادي تجريم هذه الممارسات المؤسساتية ومعاقبة الجهات التي ترتكبها، ما دامت الحملات التحسيسية وبرامج إذكاء الوعي غير قادرة لوحدها على محاربة التمييز المؤسساتي سواء كان واعيا أو غير ذلك. صدق من قال: “لدار الذنب، يستاهل العْقوبة”.


[1] https://www.taqafaqanounia.com/2021/04/427.html?m=1

[2] https://maraje3.com/2011/04/blind-analphabetes/

[3] https://shamela.ws/book/6532