كان صاحب القاعة سينما في مدينة صغيرة مرشحا للانتخابات البرلمانية فسمح بالدخول، مجانا، لجميع السكان طيلة أسابيع لاستقطاب ناخبين. كان الأطفال أكثر حضورا مُجبِرين أمهاتهم على الدخول لمشاهدة نفس الفيلم مرارا… كانت فرصة فرجة لمن لم ير قط قاعة سينما. شبع الأطفال والشباب من أفلام هندية وصينية ورعاة بقر أمريكيين لمدة عشرين يوما تقريبا ثلاث مرات يوميا… كانت تلك المشاهدة في البداية عشوائية فيها الكثير من الضجيج والتعاليق عن القبل والدخول والخروج أثناء عرض الأفلام، كنت أعتقد أن الدم الذي يسيل على الشاشة حقيقي وأن الممثلين يموتون فعلا. وكان هذا يتحول إلى كوابيس ليلية بالنسبة لي، وقد حلُمْتُ بمحارب صيني يسدد علي رُمحا فقفزت لتلافيه فضربت قدمي على الجدار فسال دم حقيقي.
بعد الانتخابات صار دخول قاعة السينما بالأداء، صارت المشاهدة خلوة وفرصة للتأمل والتفكير وتقليد أبطال الأفلام في اللباس وقصة الشَّعر والقُبل… كل قصة حب في زمن المراهقة كنا نسميها “فيلم هندي”. كان عامل السينما المكلف بتعليق صور لقطات الأفلام في بهو قاعة السينما يدق المسمار الصغير في أماكن حساسة من الصور، غالبا بين شفتي الممثلة الهندية أو بين نهدي عشيقة جيمس بوند.
لقد منحت السينما انطلاقة جديدة لحياتي. تجاوزتُ السوداوية المراهقة وفكرة الانتحار وصرتُ متفائلا. كانت السينما والانتخابات لحظة تاريخية وسياسية وفنية مهمة في حياتي. ومنذ ذلك الحين لم أنقطع عن مشاهدة الأفلام، وهي تؤثر فيّ كلما كانت أفلاما قادرة على ربط مصائر الشخصيات بوقائع سياسية، وقد كان لفيلمي شابلن “الديكتاتور” 1940 وسيرجيو ليون “الطيب والشرير والقبيح” 1966 تأثير قوي عليّ.
كانت في الفيلم الثاني وجوه قحط تتقاتل في رمل وحر وصفير ريح عاتية، فيه ثلاثة رجال حول غنيمة، بطل (كلينت أيستوود) يحمل ساعة، يقسّم البشر: “يوجد اللذين يملكون مسدسات معبأة والذين يحفرون”. يترك البطل خصميه يتقاتلان قبل أن يستفرد بالمنتصر.
بفحص تاريخ ذاكرتي البصرية لاستعادة الأحاسيس الماضية يطرح السؤال: ما الذي تبقى بدايات المشاهدة السينمائية؟
هذا نص عن استعادة للزمن الماضي. لم يكن الأمر بهذا الوضوح منذ البداية، كانت هناك الكثير من الصدف والإكراهات. في ثمانينيات القرن العشرين وبعد جفاف قاس، هاجرت أسرتي من البادية إلى مدينة صغيرة. هاجرت بفضل إصرار أمي على تعليم أولادها. تزامن ذلك مع افتتاح قاعة سينما غمرتني بالصور الملونة والمتحركة وهو ما لم أره من قبل. حتى سن الثانية عشرة تقريبا لم أكن قد شاهدت التلفزيون.
يا له من امتياز أن يولد الإنسان في المدينة.
في بداية ثمانينيات القرن الماي، كانت في المغرب قناة تلفزية واحدة وكانت السينما هي نافذتنا على العالم. كانت السينما أيضا تبث نشرات الاخبار وتعرف بمنجزات الحكومة، بعد أنباء وصور النشاط الملكي يبدأ الفيلم الهندي… ذات عام مات شقيق الملك الحسن الثاني وجاء الأمر بإغلاق كل المؤسسات فأغلق صاحب السينما باب قاعته على المتفرجين إلى ما بعد منتصف الليل… كانت الغلبة للأفلام الصينية والهندية.
كانت بطلات الأفلام الهندية جميلات… لكن بنات المدينة كن جميلات أيضا، وبالتالي لم أر في الأفلام الهندية تعويضا عن حاجة عاطفية. أما في أفلام الويستيرن فقد أعجبت بالبطل الأعزب يقطع الفيافي وحيدا… كان ذلك الإعجاب ناتجا عن طبعي الرومانسي. لعدها تغيرت لائحة الأفلام التي أشاهدها تبعا لمستواي التعليمي. لاحقا انقطعت عن مشاهدة الأفلام الصينية والهندية وركزت على الأفلام الأمريكية لأن بنيتها السردية أكثر تنوعا ولغتها البصرية أكثر دقة وعمقا.
لم أحب الكاراتيه الصينية، لأن فيها حركة كثيرة مكرورة بلا معنى. شاهدت فيلم “كينغ كونغ” وحزنت لحال الجميلة بين ذراعي الوحش. ضحكت كثيرا لأفلام شابلن التي يسهل فيها الخيال الطفولي ابتكار الكوميديا.
كنت مهووسا بمقدمات الأفلام، قبل بدء فيلم ما يظهر الأسد يزأر (merto goldwyn mayer) فأدرك أن التشويق بدأ… لشركات الإنتاج السينمائية الكبرى هوية بصرية وسمعية مؤثرة، كانت موسيقى جنريك أفلام فوكس تسبب لي قشعريرة، فهي تجهز المشاهد لتتبع سباق الصياد والفريسة، كانت تلك فلسفة القوة في السينما، كنت معجبا بالطريقة التي يستل بها بطل الويستيرن مسدسه، لاحقا فهمت هذه المشاهد وهذه الفلسفة من قراءة آرثور شبنهاور.
لقد كشفت السينما لي مدى ضرورة الفن لفهم الحياة، ضرورة الترميز والتكثيف لتجاوز العادي والمألوف. في كل فيلم ألغاز تحل على الشاشة ثم تُحل في حياة المشاهد… علمتني الافلام بلاغة الصورة، وسعت أفقي. طيلة حياتي كانت قاعة السينما ملجأ لي من العالم الخارجي… كانت محرابا وملجأ مشبعا بالمعرفة والخيال. تتجسد المعرفة في سياق الأفلام وجوابها الاجتماعية والسياسية ويتجسد الخيال في لقطات تصطاد حقيقة البشر… بفضل ممثلين موهوبين يُعبّرون بالملامح والنبرة والنظرة والإشارة. لرصد هذا أحب الإخراج الذي يصوّر ردة فعل الوجوه.
قضيت سنوات لأعرف نحو السينما، تغريني المقارنة بين الأفلام، أتعقب اللقطات المتشابهة التي تظهر في أفلام مختلفة. ابحث في كل مشهد عن معادله الأنثروبولوجي، مثلا: ما هي أهم المعارك التي خاضها البشر في تاريخهم؟ كيف تعيشها الشخصية في الفيلم؟ مثلا معركة الحصول على الطعام.
في نص استعادة الأحاسيس هذا، كيف أثرت مشاهدة الأفلام على الكتابة؟
لم أشاهد أي فيلم مغربي في تلك القاعة السينمائية باستثناء “الحال” 1981 لأحمد المعنوني. لاحقا سمعت المشاهدين يقولون “إن الفيلم المغربي لا يفهمه إلا مخرجه”. بعد سنوات ظهر لي أن الفيلم المغربي يبحث عن المهرجانات ليُعرض، أكثر مما يبحث عن القاعات السينمائية. مواجهة الجمهور في قاعة سينما هو أصعب امتحان.
مع التقدم في العمر صارت المشاهدة المستمرة مثمرة، وصارت الكتابة عن الأفلام سلسلة بفضل التراكم والمداومة. ومنذ ناقشت بحث الدكتوراه صار لدي وقت أكثر لفحص الأفلام الجديدة…
بدأ مشروعي الفني بأن أكون روائيا. كتبت روايتين وأنجزت بحثين أكاديميين عن الرواية والسينما. كتبت عن تعدد الرواة في “ميرامار” نجيب محفوظ والفيلم المقتبس عنها… لفهم لسيناريوهات اشتريت مبكرا كتاب لويس هيرمان “الأسس العلمية لكتابة السيناريو”.
لاحقا كتبت عن أفلام ويستيرن بنظرة حداثية، أفلام تنردج ضمن النوع الفيلمي لكن تعارضه من الداخل مثل فيلم”الرقص مع الذئاب” 1990 لكيفن كوستنر و”جانغو الحر” 2012 لكونتن تارانتينو، و”رجل المنزل” HOMSMAN 2014 من أخراج تومي لي جونز…
ما الذي تبقى؟
بصريا، لقد رسخت في ذاكرتي نغمة أرمونيكا شارل برونسون منتصبا (في فيلم حدث ذات يوم في الغرب 1968 لسيرجيو ليون) وحركة مسدس كلينت إيستوود.
كنت معجبا كيف يستل بطل الويستيرن مسدسه فيُسدّد فيصيبُ خصمه ثم يجعل المسدس يدور حول أصبعه قبل إرجاعه إلى غمده.
في سن الرابعة عشرة، وبمناسبة احتفالات عاشوراء اشتريت أرمونيكا ومسدسا بلاستيكيا وحاولت تعلم الطريقة التي يُرجع راعي البقر مسدسه إلى غمده.
لم أفقد اهتمامي بأفلام الويستيرن. كان لدي وفاء دائم لهذا النوع الفيلمي الذي يستخدم لقطات عامة للفيافي ولقطات جد مكبرة للوجوه دون لقطات وسيطة.