صحافة البحث

فيلم “عند الغسق” الليتواني.. أي مصيبة أن يكون بلدٌ ما جارا لروسيا

- الإعلانات -

أي مصيبة أن يكون بلدٌ ما جارا لروسيا، أي شقاء أن يكون فلاح ليتواني جارا للرفيق جوزيف ستالين، هذا الجوار معطى جغرافي يرفع منسوب الدراما التاريخية والفردية إلى مستوى الجحيم في فيلم “عند الغسق ” 2020 للمخرج الليتواني  شاروناس بارتاس. في الفيلم يطبق الجيش الاحمر طريقة خاصة للبحث عن المشتبه فيهم: يشعل النار في البيوت فيخرج كل من فيها… بينما كانت الدعاية السوفياتية تجلجل عن تحرير البروليتاريا كان بوليس ستالين يسحق الفلاحين وينهب ما يسدون به جوعهم… فيلم تاريخي يجِد امتداد في هذه اللحظة التي يسمم فيها الرفيق السابق فلادمير بوتين خصومه في 2021، حتى أن الرئيس الأمريكي الهادئ جون بايدن وصف بوتين بالقاتل. هكذا يصير واضحا للمتفرج مدى امتداد ماضي روسيا العنيف في  حاضرها.

“عند الغسق” فيلم من السينما المستقلة عن قانون السوق ومنطق العرض والطلب. فيلم سينمائي أي بعيد عن أسلوب وإيقاع أفلام التلفزيون. وقد عُرض ضمن فعاليات الدورة الأولى للمهرجان الدولي للسينما المستقلة بالدار البيضاء من 27 إلى 31 يناير2021  وحصل على الجائزة الكبرى للمهرجان “أنفا الذهبية”.

ويكشف الفيلم عن مدى تطور سينما دول البلطيق وسينما أوروبا الشرقية عامة، وهي السينما التي سحقها الجار الرهيب زمنا طويلا حين أجبرها على أن تكون أفلامها واقعية اشتراكية فصارت مجرد بروباغوندا ميتة.

في الفيلم شعْب تحْت الخوف والجوع. وهذا ما جعل كآبة الشخصيات مبرّرة فنيا ومُعْدية نفسيا. للوصول لهذا التأثير أخذ المخرج وقتا كافيا لكي يقدم كاتالوغا ثرِيا من الوجوه التي تئن تحت سلطة ساحقة دون أي إمكانية للتمرد والمقاومة… وجوه بئيسة تتعرض للاستجواب من ضابط بوجه سمين يلمع كأنه مدهون بالزبدة… عنف مركب يفرز الدموع في العيون.

تَحقق ذلك بفضل سرد يتغذى من التجربة التاريخية أكثر من الخيال، فيلم “غروب” ليتواني لحظة مقتطعة من تاريخ دموي في حضن الجار الروسي، لحظة مقتطعة يدل فيها الجزء على الكل.

يقدم المخرج شخصيات في سن الخمسين، يعني أنها عاشت مآسي النصف الأول من القرن العشرين، شخصيات بوجوه عابسة، خطوط جبين منكمشة، حملت تجاعيد الوجوه همّا راسخا تحت إضاءة معتمة في بلد لم تشرق فيه لا شمس السماء ولا شمس الحرية، إضاءة تجعل اللقطات كلوحات زيتية.

يقدم الفيلم أجواء وإضاءة داكنة وإيقاعا تواصليا بطيئا، وهذا سيسبب الملل للمتفرج الشاب الذي لا يعرف ولا يعنيه ما جرى.

حكاية شاب وعجوز يجمعهما نفس المصير، سرد خاتر مسترخي وليس مسلوقا، مسترخي اكثر مما يجب ويسبب الملل… إيقاع رتيب يليق بزمن منطقة نائية معزولة لا يقع فيها شيء إلا إذا هاجمها جنود الرفيق الدموي ستالين. كان هناك من تعايش مع القهر، وكان هناك من لاذ بالصلاة وأيقونة المسيح وكان هناك من حاول أن يقاوم. لكن كيف يمكن للنملة أن تخرج من تحت بطن الفيل؟

لابد من معجزة تاريخية وقد تأخرت أربعين سنة. حتى 1990. وخلال تلك الفترة كان المتهم الليتواني يخرج من مكتب التحقيق محمولا… الأب والابن في السجن… بطل ايجابي حارب وانهزم يتصرف بكرامة، لم يفقد انسانيته، أب يحب أن يساعد ويتوقع مستقبلا أفضل لابنه، لكن توالي الأحداث يبرز أن حاضر الأب هو نفسه مستقبل الشاب. والنتيجة فهذا شاب لا يعكس مزاجه العكر سنه، يمشي وذراعاه ملتصقتان بجسده كأنه جثة… يواجه تحديا. لقد خسر جيل الشيوخ الصراع ضد روسيا، وهو يلقي على جيل الأحفاد عبئا رهيبا لمواجهة قياصرة الرفاق.

نجح المخرج في تصوير البؤس والخوف دون ضجيج…  وجوه حول مائدة فيها صحون فارغة… نجح في تحدي جعل المزاج البشري مرئيا للكاميرا، وذلك دون موسيقى تصويرية تُملي معنى معينا، وليس صدفة أن الفيلم قد كان ضمن أفلام المسابقة في مهرجان كان 2020.

يبدو أن القصة التي يصورها الفيلم قد تكرر وقوع مثيل لها. وهي قد جرت منذ سبعين سنة فرويت مرارا. لذلك صقلها التكرار والتقادم فوصلت الحبكة إلى كاميرا المخرج طازجة. والنتيجة فيلم طبخ على مهل وليس فيلما مسلوقا غلي في ماء. هذا نقيض حُبكة مسلوقة مصطنعة ركيكة  يخترعها سيناريست غير قصاص، مفبركة يصوغ شخصيات مفبركة بلاستيكية تخضع للوصاية ولا تملك استقلاليتها. ولمحاولة تقويتها يتم السرد بإقحام فرضيات نفسية تقودها بدل أن يترك المخرج شخصياته لتواجه قسوة الواقع… وهنا يتخذ مسار الاحداث توجها مفتعلا… مسار مقصود في هذا السياق يقول لوسيان غولدمان “كل انتصار للنوايا الواعية سيكون مميتا للعمل الأدبي [والفني] الذي تتوقف قيمته الاستتيقية على المقياس الذي يعبر فيه، رغم وضد النوايا والقناعات الواعية للكاتب، عن الكيفية التي يحس هذا الكاتب من خلالها وينظر عبرها إلى شخصياته” البنيوية التكوينية والنقد الأدبي ص17. عندما يكون أثر الاختراع على الحبكة واضحا فإنها تصير مجرد تلفيق يضعف التشويق.

يبدو أن القصة التي صورها فيلم “عند الغسق” ليتوانيا قد تكرر وقوع مثيل لها، لذلك يقدم المخرج شاروناس بارتاس مختبر أحاسيس إنسانية تعطي صورة عن المجتمع الذي تجري فيه الأحداث… هنا يصير القبح الاجتماعي كاشفا عن جمالياته المؤثرة… هذه حبكة حقيقية متلاحمة مقنعة اثمرت شخصيات حية فيها لمسة من الخام يجعلها اقرب للواقع وقد ترك المخرج شخصياته تصوغ منظورها من موقعها على الأرض حتى لو هزمت. تتخذ الاحداث منحنيات عنيفة لكنها متولدة من تربة شخصيات تحاول العيش ولا تعكس نظريات نفسية واجتماعية جاهزة.

الفن الاكثر مصداقية هو الذي يؤثر.