صحافة البحث

صيدلية الأفكار (2): لغز الاستهلاك في رمضان

- الإعلانات -

مع حلول كل رمضان يعيد الجميع استعادة أسئلة رمضان السابق المتعلقة بالاستهلاك وارتفاع درجاته لدى المغاربة، مقابل غلاء الأسعار و قلة بعض المواد أو ندرة بعضها … رمضان هته السنة مميز من هته الناحية. فقد سبقته موجة حر زائدة في ارتفاع أثمنة المواد الاستهلاكية ، كانت الطماطم بطلتها الأسطورية. وتلاه تقرير بنك المغرب حول نسبة التضخم التي لم تعرف انخفاضا ينذر بعودة هته الأثمنة إلى حدودها المعقولة المتلائمة مع دخل أغلبية المواطنين. لكن و رغم كل ذاك يتزايد الإقبال على الاستهلاك كما و كيفا. يشبه الأمر لغزا يصعب فك حروفه وطلاسيمه . يتعامى الأطباء و تقنيو التغدية و الفقهاء عن تفكير سر اللغز و يتبادلون الأدوار في شرح ما هو نافع و ما هو مضر . يسند الفقهاء دعاواهم بأدلة طبية، و يبادلهم الأطباء و تقنيو التغذية نفس المجاملة عبر سند دعاواهم بأدلة شرعية .

نعرف جميعا أن شهر رمضان شعيرة و طقس وفرض عين بالنسبة لكل المسلمين. إنه طقس روحي و تعبدي ، لكنه أيضا طقس اجتماعي جماعي و هو ما يشحنه بدرجات الإلزام و الإكراه الاجتماعية ،التي  تفوق  و تعلو على درجات إلزامية باقي الشعائر. إنه أيضا طقس احتفالي، و خاصيته الاحتفالية تلك تظل محتجبة وراء خاصياته الأخرى  على الرغم من أنها تشكل مفتاح اللغز و المفارقة .تمتلك الطقوس الاحتفالية ، والمحتضنة للبعد الاحتفالي منطقها الخاص في العلاقة مع الاستهلاك .لا يراعي اقتصاد الطقوس الاحتفالية منطق الاقتصاد السياسي بكل قواعده العامة : إنتاج واستهلاك ، ربح وخسارة ، مراكمة وادخار… لأنه اقتصاد رمزي يغتني ليس بالأشياء  والأموال ولكن بما تدل عليه هته الأشياء وما يفوق طبيعتها المادية و مقاصدها الاقتصادية . مائدة رمضان لا تتغيي الأكل و الالتهام ، مثلما لا تقصد الفم و البطن، لذلك عليها أن تشبه العروس التي تريد إسقاط العين في شبكة غوايتها. إنها مائدة العين، و ليست مائدة الفم، مائدة الرغبة وليست مائدة الحاجة، مائدة المختلط وليست مائدة المنسجم و المتوازن، مائدة الجماعة و ليست مائدة الفرد، مائدة تتغير عليها وحولها مدلولات الأكل البيولوجية. داخل اقتصاد الحفل هنالك دائما فائض ما .فائض في الضحك و فائض في الكلام و فائض في العرض لا يهدم قاعدة العرض و الطلب الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي، مثلما لا يحترمها . هذا الفائض الحاضر و المرئي  في كل شيء لا يخضع فقط لمبدأ الاحترام التي يراعيها كل طقس ، بل يرسي مبدأ الانتهاك أيضا . تحترم المواقيت والموانع ، لكن في الآن نفسه تنتهك حرمة الجوع والعطش والصوم و الصيام و مطالب الزهد و القلة و سنن النوم …

مائدة رمضان، مائدة الفائض، لكنه ليس فقط فائض حلويات ومعروضات غذائية .. بل فائض التبادل. تبادل الكلام والضحك والحسرة والمناقشات حول الأثمنة والأسعار والأحباب والجيران … أمر يجعلها أشبه بسوق صغير للتبادلات الرمزية و الكلامية. سوق يشغل فيه الكلام والرمز والاجتماع الثروة الأساسية. ألم يعتبر الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس أن سر وجود البشرية بكل مؤسساتها الكبرى إنبنى على هذا  النوع من التبادل : تبادل الحركات والقرابة والوجبات والهدايا والزيارات التي يوجد تحتها وفي سرها تبادل الكلام و الكلمات.