نعتبر بأن الإمبراطورية كفكرة (في هذا الكتاب تحيل الإمبراطورية (بالمعنى العام) على سجل للدولة وعلى صورة تم بناؤها لضرورات التحليل. أي تحيل على نموذج مثالي في حين أن الإمبراطورية بالمعنى الخاص تحيل على تجربة تاريخية ملموسة، وهي في الحالة هاته تجرية الإمبراطورية الشريفة أساسا…).. ما زالت حاضرة وتكتسي أهمية عملية أساسية في ممارسة الهيمنة: وعليه فإن هندسات الفعل كما برمجيات، وطرق التفكير كما في طرق العمل كما أدخلتها الإيديولوجيا النيوليبرالية. تجد في الريبرتوار (السجل والدليل) الإمبراطوري. وغالبا كما يكون شكل أكثر من ريبيرتوار الدولة الوطنية. حوامل ومركزات تطبيعها.. وسنبيّن في الصفحات التي ستلي كيف آن الحضور الإمبراطوري يتجسد بطريقة أكثر تباينا بطبيعة الحال: حسب الظروف والمراحل والفاعلين والرهانات..
المخيال، ما وراء الثقافة والتقليد…
إن أطروحة راهنية البعد الإمبراطوري لا علاقة لها بتوظيفه السياسي الذي يمكن أن يحدث، فالإمبراطورية ليست هي الزخرفة العتيقة “لديكور المامونية” والحاضرة بشكل مهيمن في مشهد كما في خطابات السلطات المغربية. ولا هي كذلك التقليدانية وقد وضعت في مقام الإيديولوجيا. فالإمبراطورية بالنسية لنا تنتمي إلى مِخيال الدول. ومفهوم المخيال (المخيلة) مركزي في تحليلنا، فهو يسمح لنا بأن نعانق، بنظرة واحدة نفسها، مختلف الجوانب المتنافرة في المجتمع من اللغة ووضعيات الجسد إلى العواطف، ومن استراتيجيات التملك والتأويل إلى أساليب المهارة في العمل والوجود اليومي، ومن أنماط التملك واستراتيجيات إعادة الابتكار إلى أجهزة السلطة وتكنولوجياتها، ومن المفاهيم والفئات إلى أنماط محاولة فهم الزمن والفضاء والعلاقات الاجتماعية، فلا يمكن إدراك الحاضر خارج الخيال (أو ما يسميه المؤرخ والجامعي الأستاذ الشرفي في الكوليج دوفرانس بول فاين بـ(المخيال التأسيسي).. بمعنى خارج فئويا وأطر تنظيم العالم الملموس ومبادئه، إذ طالما كانت هذه المنطقة الرمادية بين « الحقيقي والخاطئ، بين الواقعي واللاواقعي، هي ما يجعل المجتمع متماسكا ». وعليه فإن المرجعية الإمبراطورية ومرجعية الدولة الوطنية لا يحملان نفس الدلالات ولا يسمحان بنفس التأويلات للواقع، أو ما يهمنا إبرازه هو الطيف الواسع للسجلات التي يمكن تعبئتها في نفس اللحظة. بهذا المعنى فنحن نستجيب لمقاربتين للمخيال: الأولى تراه هو «ما بؤطر لمفصل التجارب الفردية وتفاعل دلالاته والقيم المتماشية معها والأخرى التي تفهمه مثل «تفاعل» و«حوار مستمر»، بين «الإرث والإبداع» وبشكل أوسع بين مختلف التصورات. السلطة والحكم والمجتمع، وبهذا المعنى المخيال ليس هو لاشعور المجتمع بل هو كذلك شيء جد مادي وأكثر وعيا لدى الفاعلين. وهو مدرج في المعيش اليومي حتى ولو لم يكن من الممكن اختزال هذا البعد في التوظيف والتسخير.. وهذا الأخير موجود بطبيعة الحال لكنه لا يفسر لماذا ينخرط الناس فيه ويؤمنون به ويحيلون عليه كمرجع (أنظر حديث عن الوظيفة المزدوجة للتوظيف والتسخير والانخراط عند مارك بلوك)….
وتعد هذه النقطة مركزية بالنسبة لنا وتندرج فيها أحد الأسباب التي تُهيكل برهنتنا وتحليلنا… أي أهمية المعنى والدلالات…
أَنْ تُسْتعمل العلامات «الخارجية» «كرموز» ذلك أمر يعتبر “أحد الاشتراطات القبلية الكونية للعلاقات الاجتماعية” كما يقول فيبر، ومن ثمة، كما يفسر ذلك جان بيير غروسان، فما يعطي معنى وبشكل مناسب يشترط عليه ليتحقق «تفاهم» حول معنى العلامات، وبالضبط «توافقا»، مسنودا هو نفسه بعادات في التفكير وفي الشعور ومسنودا أيضا على ” معايير تفكيرنا”، حيث بدون ذلك لن يكون هناك أي تواصل ممكن” علما أن “التفاهم” لا يحيل عند فيبر على التوافق بل بالعكس من ذلك يحيل على استمرار الصراع والنزاع، حيث أن الأخيرين يعملان على إبراز عوالم من المعنى والتصورات الخاصة بالعالم، وهي بحد ذاتها أنماط في تملك هذا العالم والعمل، بالأساس، على تعريف العيش المشترك خارج التوافق.
إن المخيال هو، في المحصلة، ذلك المفهوم الشامل الذي يسمح لنا بإعادة إطار المعنى إلى سُمْكِه المجتمعي والتاريخي .. في حدود أن “الفعل الفردي لا يعتبر كبداية أولى ينطلق ابتداء من الدرجة صفر في الحالة الاجتماعية، بل باعتباره موجودا من البداية في عالم تاريخي دائما مُهيكل مسبقا بأنظمة ما”.
إن اللجوء إلى المخيال ليس طريقة منمقة للتفكير في الاستمرار أوالامتداد، بل على العكس من ذلك. ما إِنّ نفهمه في بُعده الفكروي (من الفكرة). بل الحُلْمي كما في تجسيده اليومي، فإن المخيال يساعد على فهم التحول أو التغيير.(….). إن المخيال يبدو مثل الرابط الذي يعطي معنى للممارسات، وإلى التحول في نفس الوقت. إنه وسيط يجعل من الممكن تجميع أوضاع متفارقة في كيان واحد، إنه “نحوٌ” grammmaire يسمح بتعبئة سجلات فعل وفهم ورؤى لعالم.. إنه لغة، ولسان يُتَداول عبره المعنى. وهنا أيضا، يجب تفادي المعنى المضاد في المسألة، فنحن أبعد ما نكون عن صورة المغرب الدولة الوطنية في حالة مواجهة مع الخيال الإمبراطوري، في ما يشبه تحيينا للتحليلات الثنائية- المانوية للبلاد، أو صورة مغرب نيوليبرالي يعيد ابتكار الدولة الإمبراطورية على أنقاض دولة وطنية في حالة أزمة. ما نريد البرهنة عليه هو أن منحنى مسار الدولة في المغرب يمكن فهمه بشكل أفضل إذا ما نحن، بلجوئنا إلى المخيال، استطعنا أن ندمج في تحليله إطار معنى التمثلات التي تعود إلى أزمنة متنافرة وجد بعيده في بعض الأحيان، وكذلك إذا ما نحن استطعنا أن نبرز، ونحن نلجأ إلى النماذج المثالية، سجلات مختلفة ومتزامنة في نفس الوقت.
التفكير عبر النموذج المثالي
إن التفكير عبر النموذج المثالي قد عنَّ لنا أساسيا وخطيرا في نفس الوقت، بالقدر الذي كانت فيه الطريقة «النموذجـمِثالية» موضوعا تبسيطيا وتمويليا خاطئا بل موضوع معنى غير معناها.
إن التفكير عبر النموذج المثالي لا يعني البحث عن تحديد فشل ما يمكننا من إعادة بناء الواقع في كليته في لحظات تاريخية مختلفة اللحظة الإمبراطورية، اللحظة الوطنية، اللحظة النيوليبرالية ـ، إنه بالأحرى إبراز” الملامح المميزة” للممارسات الاجتماعية في ” أكثر بروفايلها تميزا” والأكثر تأثيرا انطلاقا من معطى ملموس كما يتجلى في الواقع التاريخي أن الطريقة النموذج مثالية idéalitypique لا تسعى إلى “إدخال عنوة في خطاطات ما التنوع اللانهائي للواقع التأريخي ” كما أنها لا تسمح القبض على جوهر افتراضي ما للدولة الإمبراطورية أو الدولة الوطنية. إنها تروم فقط ” صياغة نقط ارتكاز ومعالم مفاهيمية وقابلة للاستعمال لغايات محددة “، وهي هنا غايات تحليل الدولة وفنونها في الحكم، والقائم بذلك عبر أفعالها كما غياب أفعالها، وذلك عبر الإيمان بمعايير وعبر علاقات السيطرة. فالنموذج المثالي ليس لا بتمثل ولا هو برسم خطاطة للواقع، إنه بالأحرى بناء ذهني فكري يساعد على التفكير والتحليل والطريقة النموذجـمثالية يمكن تطبيقها على معطى ملموس ويمكن أيضا، وخصوصا، على كل مَشْكلة problématisation (ماكس فيبر كان يحلو له أن يقول بأن هناك نماذج مثالية للمواخير كما هناك نماذج مثالية للأديان)…
وهذا ما يفسر عدم استعمالنا للنماذج المثالية المقترحة من طرف ماكس فيبر، والتي عادة ما يتم استخدامها لتمييز ممارسة السلطة في المغرب، ونعني بها الباتريمونيالية (النزعة الأبوية للسلطة) السلطانية والكاريزما، «والعلامات المميزة» التي أرشدت تفكيرنا حول الدولة في المغرب ما قبل الاستعمار كانت هي دوران الحكم والحكم بأقل كلفة عبر مضاعفة عدد الوساطات والوسطاء وغياب الطموح في مراقبة مجموع التراب وميل واضح نحو التكيّف، وتجاهل أي علاقة بين الشرعية وتملك احتكار السلطة بما في ذلك العنف، والقبول بتعددية الأنظمة القانونية، والإثنيات والقوميات والجماعات الدينية وقدرة الدولة على تدبير القطائع.. عوض الزبونية والولاء والغموض بين الخاص والعام أو التحكم والحكم الفردي للأمير، وكل الميزات التي تميز الهيمنة الباطرومونيالية أو السلطانية، علاوة على ذلك، ظهر لنا أن التجربة التاريخية للمغرب المستقل مطبوعة بعمليات ومسلسل العقلنة البيروقراطية، بنفس القدر الذي ظهر فيه بأنها مطبوعة بمبادئ أخرى لا تندرج أو تندرج قليلا في «النموذج المثالي» المبني على الهيمنة القانونية ـ العقلانية، مثل خصائص الوحدة والامتداد، والإرادوية والتدجين والتنميط والمساواة المجردة..، وبناء على هذه المعاينة، شعرنا بالحاجة إلى بلورة نموذجيْنا المثالييْن الخاصيْن بنا، واللذين سميناهما على التوالي «الإمبراطورية» و«الدولة الوطنية»…
وإذا فهمناها على هذا الشكل فإن الطريقة النموذج مثالية، يمكنها أن تسعدنا في إدراك اللوحة المتنوعة لتصورات السلطة لأنماط الفعل أو غيابه لدى الدولة، وأنواع العلاقات بين هذا الأخير والمجتمع، وقد بدت لنا هذه الطريقة خصبة لسببين على الأقل:
من جهة، تدعو إلى تجاوز الثنائية التي تطبع النظرة إلى المغرب المعاصر، وذلك عبر عملية مزدوجة تنزع الطابع الاستثنائي المتفرد والتمركزية عن المغرب.désingularisation et décentrement
ذلك أن أغلب الأشغال على «السياسي» Le politique في المغرب تميل بالفعل إلى إبراز «فَرادَة» بلد لا تشبه أي بلد آخر، وذلك أساسا لأنه يزاوج بين نظامين مختلفين ولكنهما متلازمان: نظام الشرعية الذي يحيل على الدولة الوطنية ونظام البيعة الذي يحيل على المخزن باعتباره من آثار التاريخ ..نظام المعاصرة ونظام التقليد والمحافظة، نظام الهيمنة البيروقراطية، ونظام الهيمنة الباتريمونيالية(الأبوية).. أو نظام «الديني» ونظام «السياسي»…
وشبكة التحليل هاته حاضرة بقوة عندما يتعلق الأمر بالمغرب لدرجة أنه على ضوئها تم تأويل مقالنا الذي عرض بعض عناصر هذا الكتاب: أي تأويل يرى أن «النموذج المثالي» الإمبراطوري يمثل الوجه المظلم والعتيق والسلطوي للحكم، و«النموذج المثالي» للدولة الوطنية هو الوجه المشرق لدولة الحق والقانون والنزوعات الديموقراطية، التي تجد صعوبة في فرض نفسها.. والحال أنه لا شيء من ذلك موجود وبالأساس لأننا قلنا، على وجه التحديد، بأن النموذج المثالي ليس قالبا، (نمطا جامدا) بل هو بناء فكري (ذهني) يساعد على التفكير في بعض «ملامح» وخصائص الدولة…
تسمح لنا الطريقة المبنية على «النموذجمثالي» بتجاوز التحليلات النشوئية ـ التطورية التي ترى في الدولة الإمبراطورية شكلا من أشكال الدولة في طريق الانقراض، وفي الدولة الوطنية، الشكل الوحيد للدولة الحديثة والمعاصرة، والتي تجد صعوبة في فرض نفسها. والأعمال التي تبنت هذه الرؤية كثيرة للغاية. بل إن القراءة «الباسكونية» «للمُركَّب» (نسبة إلى بول باسكون)، التي تحاول القطع مع القراءة المعيارية المبنية على وجود دولة طيبة ودولة شريرة، تظل سجينة فكر تطوري نشوئي: حيث إن التهجين والمزج كما يصفه بول باسكون يحيلان على دولة مضت، تعتبر دولة متجاوزة ودولة أخرى في طور التكوين مرتبطة بالتحديث والعصرنة.. وندرك أن الأمر لا يتعلق بتصنيف الدولة المغربية للقول بأنها تنتمي إلى الدولة الإمبراطورية أو تنتمي للدولة الوطنية أو أنها مزدوجة، باعتبار أن الدولة الوطنية «غير مستكملة » بفعل مقاومة الدولة الإمبراطورية، بل يتعلق بـ «تعقيد» توصيف الممارسات الحكومية بالابتعاد عن تقدير معياري ضمني يرى، مثلا، في غياب ممثلي الدولة في الجهات «ضعفا»، ويرى في الحفل الطقوسي لتجديد البيعة أو في المزج بين الخاص والعام نوعا من «العتاقة» المتجاوزة، وفي تدخلات وسيط ما غير مُمأْسس في السياسة العمومية “إخلالا”.. وكما يشير إلى ذلك ماكس فيبر، فإن النموذج المثالي لا يوجد في شكله الخالص، إذ في ” حقيقة الحياة ليس هناك سوى حالات وسيطة، أو «أشكالا مختلطة» تزاوج بين مختلف النماذج «بأنماطها الأكثر تنوعا». وعليه فإن النموذج المثالي «غير واقعي» بما أن طموحه ليس وصف الواقع بل المساعدة، عبر بلورة فكرية، على فهمه بشكل أفضل.(….)إن الإمبراطورية الشريفة ليست هي النموذج المثالي للإمبراطورية التي نرسم هنا ملامحها، كما يوحي بذلك التعايش في مغرب ما قبل استمرار أساليب الحكم المتباينة، والتي تشمل التدخلات المباشرة والقانونية العقلانية التي تميز النموذج المثالي للدولة الوطنية، كما أن المغرب المعاصر لا ينزاح عن النموذج المثالي للدولة الوطنية، كما يتضح ذلك من خلال الإخراج الرفيع لطقوس البيعة أو استمرار العمل بالظهير الشريف في التشريع. هذه النماذج المثالية سمحت لنا على وجه الخصوص بفهم اللحظة النيوليبرالية الحالية، لا باعتبارها مرحلة متقدمة من الدولة الوطنية، بل باعتبارها إعادة ابتكار للإمبراطورية وباعتبارها لحظة سياسية تفصل «ملامح» معينة (الأجهزة والهندسات والممارسات والقيم والتمثلات) المنبثقة من السجل الإمبراطوري كما من سجل الدولة الوطنية أو منظومة المعنى كما اقترحها الإسلام.
إن النيوليبرالية هنا تفهم كإيديولوجيا وكممارسة في لحظة معاصرة تطبعها أسبقية منطق السوق والمقاولة التدبيرية، وعبر «حضورية» وتدخل للدولة يفضل الضبط والحكم عن بعد، وعبر تصور فردي (وليس جماعيا) للمسؤولية والأولوية الممنوحة لمنطق المنافسة والتنافس والتميز على حساب المساواة والعدالة الاجتماعية. (علما أن النقاشات والأداب الخاصة بالنيوليبرالية غزيرة جدا والمصطلح يستعمل من طرف نقاده في سياق تقليد نقد ماركس ـ فوكو)…
إن الدولة في المغرب لا تتم مقاربتها في هذا المؤلف باعتبارها نموذجا أصليا للدولة الإسلامية أو الدولة في طور النمو أو دولة تخترقها القبلية والإثنية، بل باعتبارها دولة فقط، دولة في حالتها العادية. بيد أن الاطلاع الاستكشافي (المساعد على الملف) للمسار المغربي يكمن في الإشهار الاستعراضي لخصوصيته، التي تساعدنا على تصور، بل على رؤية مختلف هذه السجلات التي تتمازج لتشكيل مِخيال سياسي..
الماضي البعيد والقريب
إن المنهاج النموذجمِثالي واللجوء إلى المخيال يؤسسان بالتحديد قاعدة مرتكز قوي لآخر إشكالياتنا العامة: وهو تقديم تفسير عن “تشابك الديمومات”..
ونحن نسعى إلى أن نصف بأرفع ما يمكن ممارسات حكومية وتكوينات السلطة، نبرهن أن سجلات التمثل والتمثيلية، والإخراج، والفعل والعقلانية والفهم، ليست فقط تعددية بل يمكنها أن تحيل إلى فترات متنوعة (ديمومات) وبل وتحيل أحيانا إلى زمان طويل للغاية. وهوما يسميه ميشيل دو صيرطو “الزمن الرقائقي أو المُورق feuilleté حيث تتراكب فيه فترات زمنية مختلفة، فيما الأزمنة والأمكنة والمستويات الاجتماعية متقطعة والعلائق بين مختلف هاته “الطبقات – الصفائح ” معقدة ومتأرجحة وملغزة.
نحن نفضل الحديث عن زمن”مُخاط” عوضا عن زمن رقائقي..، أي زمن تمت حياكته بواسطة الجينيالوجياـ عالم الأنساب والإسناد (سلسلة الإنسان الضامن لصدقية حديث عن النبي) والتسلسلات ، والتي تشتغل من أجل ربط أمير المؤمنين بجده النبي كما تربط أبسط المؤمنين الذي يمكنه، بواسطة الأحاديث والسيرة النبوية كما تم تداولها (يمكنه) إعادة إنتاج، شعوريا أولا شعوريا، الفعل النبوي الأول، وبالتالي محو الزمن أو المدة الفاصلة عنه ..(الجوزي يفسر الكيفية التي يتم بها هذا الأمر وسط مريدي حركة التبليغ).. ويمكننا هنا أن نستحضر المَفْهَمة conceptualisation الفيبيرية بخصوص فكرة (التركيب والتناضد) ومنها أن الشبكة الزمانية لا تحيل على زمن ماض، بل على العكس من ذلك، تحيل على موازين منطق اجتماعي متعدد، ويمكنها وإن كانت متباينة، أن تتداخل وتتراوح في ما بينها وتفرز إعادة تمويل متبادلة، ينجم عنها بدورها سجلات جديدة للمعنى..
إن مقاربتنا تُفْرد إذن مكانة مهمة للماضي البعيد، والذي يمكن أن يكون له وزن أكبر من الماضي القريب في المخيال السياسي وفي فهم علاقات السلطة، كما في فهم هندسيات الحكم التي تتم تعبئتها. وسنرى بذلك أن السهولة التي تم بها اعتماد النيوليبرالية في المغرب يمكن تفسيرها بِتَصاديها(من الصدى) مع بعض أفعال وسِمات الإمبراطورية الشريفة..
إن الماضي البعيد لا يكتفي بالتأثير في الذاكرة واللعب عليها، بل هو حاضر عبر سجل (ريبرطوار) من المعنى، بطبيعة الحال، ولكن أيضا عبر تكنولوجيات السلطة وقد اعتبرت عادية ومفهومة، ونفس الشيء ينطبق على خصيصة الإمبراطورية الأخرى ألا وهي التوسع. وفي الواقع، لم يوجد التوسع إلا في ماض سحيق، هو مغرب المرابطين والموحدين والمرينيين…
ومع استرجاع الأندلس من طرف المسيحيين والاندفاعة الإيبيرية عاد التوسع من جديد مع السعديين، والذين ردوا على تحدي الانعزال في الجزيرة على التوسع جنوبا.. ومن المثير فعلا أن نرى السهولة التي تم بها تحيين هذا الماضي التوسعي الذي اعتقدنا بأنه مر وانقضى، عبر التطلعات الترابية وإعادة تشكيل الخرائط اللذين تليا عهد الحماية ثم عن طريق المصاحبة ـ عبر البيعة الدائمة وديناميات الهجرة ـ لمغاربة العالم يهودا كانوا أو مسلمين، وحديثا عبر السياسة الإفريقية الطموحة للمغرب، التي تلعب على “العمق” الإفريقي للمجتمع كما تفعل ذلك، بطريقة متميزة ومتكتمة، في نفس الوقت، وإن كانت ذات أثر بليغ (تفعل) تلك العائلات الفاسية الكبيرة التي تُقدِّم بعناية من يدافع عن شرفه الخاص الأكلةَ الوطنية السينغالية «تيبودين» (أكلة شهيرة من السمك والرز والمرق بالخضر) أو التذكير بممتلكاتها في السينغال أو في غينيا..