لم يذكر التاريخ الكولونيالي ولا الرسمي، القايد بوبكر بن بوزيد، ضمن سيرة “القياد الكبار”، التي تغنت بهم أهازيج الجبل وعيطات السهل مثل القايد العيادي أو القايد لمتوكي أو حيدة أومويس أو حتى القايد عيسى ولد عمر الذي “خرجت فيه” الشيخة خربوشة، ووسمته بأحقر الصفات: مثل “قتال خوتو” و “وكال الجيفة” و”محلل الحرام”… قبل أن تعود وتستشفعه بولديه إدريس وأحمد، وبالعديد من الأولياء مثل التيجاني (مول الوظيفة) والقدميري (مولا حمرية) وسيدي احساين (اللي جا بين الويدان).
لقد خلَّد التاريخ الشفاهي وفنون العيوط ملحمة عداء الشيخة مع القايد سي عيسى، كما خلدت أهازيج الأطلس الصغير بطولات القايد لمتوكي، بحسب ما روى “القبطان الشلح” جوستنيان في كتابه حول القايد الطيب الكندافي، كذلك حفظت مذكرات الجنود والأدبيات الكولونيالية جزءا مهما من هذا التاريخ العسكري والاجتماعي الذي إلتبست فيه قسوة الحديد والنار وجلبة الدسائس والخيانات في “بلاد البارود”.
تبقى سيرة القايد بوبكر بن بوزيد شبه مضمرة في أوراق التاريخ الرسمي، بالرغم من الإشارة الواضحة لدوره المفصلي إبان فاجعة قنبلة واحتلال مدينة الدارالبيضاء في غشت سنة 1907، حينما كان بن بوزيد باشا على المدينة. ورفض كل المساومات والتهديدات من لدن القنصل الفرنسي، لينتهي به المطاف بعد المجزرة كأول أسير حرب ويُنقل إلى سجن بالجزائر.
إن المواقف البطولية لهذه الشخصية التاريخية، لم يكن صدفة فقد سبقه موقف نبيل مع الشيخة خربوشة لما حاول إنقاذها حين لوجئها إليه وهي القائلة : “على كليمة خرجت بلادي”، وتقصد مرحلة لجوئها لأخوالها باولاد سعيد، التي كانت تابعة لـ البروج و كان سي بن بوزيد قائدا عليها.
فمن هو القايد بوبكر بن بوزيد ؟ وما دوره في وقائع الحكاية الخالدة لخربوشة مع القايد سي بن عيسى التي انتهت بمقتلها؟ وكيف حاول تغيير قدر هاته الشيخة، التي ناهضت القايد بن عيسى في عز سطوته وجبروته حتى صار نظمها رديفا لمقارعة الطغاة والمقاومة؟ وماهي طبيعة المواقف الوطنية التي سجلها القايد بن بوزيد في حمأة مقاومة الغزو الفرنسي والاسباني لمدينة الدارالبيضاء؟.
محاولة إنقاذ فاشلة
عندما انفرط عقد التفاهم بين الشيخة خربوشة والقايد سي عيسى، وصارت تهجو هذا الأخير في كل المجالس حتى سارت بــ”عيوطها” الركبان وتغنى بهجائها كل قبائل عبدة والشاوية، هاته الأخيرة التي لجأت إليها الشيخة خربوشة عند أخوالها بأولاد سعيد. وكان حينها القايد بوبكر بن بوزيد قائدا على البروج، ولاشك أنه كان على علم بمجريات قصتها مع القايد بن عيسى. إلا أنه أعطاها الأمان للعيش بين أخوالها. ولم يكترث بمطلب تسليمها للقايد بن عيسى. وبحكم أن قضيتها معه صارت قضية “رأي عام” فقد إرتأى القايد بن بوزيد ترحيلها للمخزن المركزي بفاس. وشاور السلطان في أمر ذلك، فأمره بتوجيهها إليه ليعرضها على الحضرة السلطانية، سيما وأن علاقة القايد بن عيسى بالمخزن المركزي بدأت بالتوتر منذ وفاة الحسن الأول وفرض إصلاح الترتيب العزيزي، الذي عارضه الكثير من الشرفاء وبعض القياد كذلك، منهم القايد بن عيسى العبدي.
بحسب بعض مراسلات المخزن المحلي الموجهة إلى المخزن المركزي، فقد ورد اسم الشِّيخَةْ اَلْعِيَّاطَةْ والمغنية المعروفة بِحَادَّةْ الزَّيْدِيَةْ الْغِيَّاثِيَةْ الْعَبْدِيَةْ بصيغة التصغير، حيث نُعِتَتْ بِحْوِيدَّةْ الزيدية الغياثية، والنموذج هذه الرسالة الموجهة إلى الحاجب السلطاني أحمد بن موسى المعروف بـ “أَبَّا حْمَادْ”، والموقعة من طرف القائد بوبكر بن بوزيد، وقد جاء في هذه الرسالة-المحفوظة بالمكتبة الوطنية- ما يلي :
(حفظ الله سيدنا الأعز، الأرضى، الصدر الأعظم، الفقيه الأجل سيدي أحمد بن الفقيه الوزير الأعظم سيدي موسى بن أحمد. وفقك الله وأمّنك ورعاك، وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد، فيكون في علم سيادتك أننا وجدنا يومه صحبة مَخْزْنِي من أصحابنا الشِّيخَةْ حْوِيدَّةْ الْعَبْدِيَّةْ. واصلة الحضرة الشريفة دام عزها وفق الأمر الشريف أعزه الله. فإذا بأصحاب القائد عيسى بن عمر العبدي، إتفق خروجهم مع المخزني والمرأة المذكورَينِ في وقت واحد، ورافقوها مسافة. فلما انفصلت الطريق عمدوا إلى مركوب المرأة وساقوه لغير طريق الَمْحَلَّةْ السّعيدة. وحالوا بيننا وبين الْمَخْزْنِي وقصدوا بها طريق أزمور… وأعلمهم بأنه متوجه بها لِلْمْحَلَّةْ السّعيدة. وأراهم الكتاب الذي معه. فلم يلتفتوا إليه وتبعهم مسافة كبيرة ولم يقدر على مقاومتهم لأن عددهم إثنى عشرة فارسا. وتوعّدوه إن لم يذهب معهم لِلْمْحَلَّةْ أو إلى حيث شاء. فلما آيَسَ منها وتحقق عندها وقوع ما توعدّوه به خاف من ذهابه لَلْمْحَلَّةْ بكتاب دون المرأة رجع إلينا وكان وصوله قرب المغرب والكتاب الموجه لسيادتك أولا يملك معه. وبه وجب إعلام سيادتك وعلى المحبة والسلام في 13 شوال عام 1315 هجرية. خديم المقام العالي بالله).
تثبت هذ الوثيقة إحدى فصول نهاية قصة خربوشة مع القايد بن عيسى، الذي تسلمها واستسلمت لمصيرها الدرامي وهو الموت، كما تثبت محاولة القايد بن بوزيد إنقاذها من مصيرها الدرامي، بإرسالها للصدر الأعظم أحمد بن موسى، لولا سبق يد القايد سي عيسى عليها والتنكيل بها.
لقد كتب لهذا القائد (بن بوزيد) أن يكون شاهدا على النهايات، نهاية عهد عهد المولى الحسن الأول، نهاية خربوشة الشيخة المتمردة، ونهاية أخرى لا تقل تراجيدية وهي نهاية المغرب المستقل عقب الاحتلال الفرنسي لمدينة الدارالبيضاء. التي كان سي بن بوزيد باشا عليها وعاش كل حيثيات وتفاصيل ثورة الأهالي بالمدينة وقنبلة المدينة عن بكرة أبيها في غشت سنة 1907. محتفظا بموقف وطني شجاع أبى إلا أن يقاوم-من خلاله- بشخصه ومنصبه في سبيل سيادة وطن، وللأسف كانت تلك السيادة، أو ما تبقى منها بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، آخر ما يهم جل موظفي المخزن وأذناب الاستعمار من “المحميين” المغاربة.
رجل المواقف الوطنية
في محطة تاريخية لها من الأهمية الشيء الكثير، لما لها من تداعيات ونتائج أثرت بشكل عميق في المغرب والمغاربة. وذلك حينما حاصرت فرنسا ومعها إسبانيا مدينة الدارالبيضاء بأسطول يكفي لاحتلال قارة، مكون من العديد من البوارج الحربية وعشرات الآلاف من الجنود. قبل أن تشرع في قنبلة المدينة أربعة أيام متتالية، لم تخلف إلا الموت والدمار. وسبق القصف إنزال عسكري لكومندو من 60 بحارا فرنسيا لحماية القنصليات الأجنبية بالمدينة. حيث نزل هذا الكوموندو بشكل بشكل سري وبلباس متنكر بمرسى المدينة. قبل يشرعوا في قتل عساكر المحلة المخزنية بباب المرسى وهم في طريقهم نحو مبنى القنصلية بالمدينة العتيقة آنذاك لتأمين مبنى القنصلية وإعطاء شارة القصف من على سطحها.
لم يكن للقيادة العسكرية أن تتخذ هذا المنحى، بإرسال فرقة بشكل سري، لولا رفض باشا المدينة وهو سي بوبكر بن بوزيد تأمين “نزول آمن” وفتح باب المرسى، وحمل مسؤولية ذلك للخليفة المولى الأمين.
لقد حفظت الأرشيفات العسكرية الفرنسية بشكل واضح نبل المواقف التي عبر عنها الباشا بن بوزيد، ففي دوريته التي أطلع بموجبها القنصل الفرنسي بالمدينة باقي قناصل الدول الأجنبية المعتمدة بها، بخبر الإنزال العسكري، جاء في آخر فقرة منها : «وسأتكفل بتوجيه هذا الإشعار إلى مولاي الأمين –خليفة- في الوقت المناسب» أي أنه أخبر بعد توصل القناصل بالإشعار.
ومن المحتمل أن يكون القنصل الفرنسي قد أطلع مولاي الأمين (عم وخليفة السلطان)، بكيفية أو بأخرى في وقت متأخر من ليلة 4 – 5 غشت سنة 1907، وأمره بأن يصدر تعليماته بترك باب المرسى مفتوحا. ولكي يتجنب الخليفة السلطاني كل خلاف مع الجنود الفرنسيين، تذكر بعض الروايات أنه أوحى لبعض الحراس بفتح باب المرسى مبكرا وتركه مفتوحا، دون أن يسرب خبر الإنزال الفرنسي، لأن ذلك كان من شأنه أن يثير مقاومة المغاربة، أما الباشا بن بوزيد فقد ناصبه الفرنسيون العداء منذ 1906 ونظرا للاتهامات التي وجهت له منذ حادث مقتل العمال التسعة، بعدم فرض الأمن بورش المرسى وحماية العمال الأجانب.
هكذا، تبدو رواية عبد الرحمان ابن زيدان ضعيفة، بخصوص فرضية المعرفة السابقة للباشا أبي بكر بن بوزيد، بخبر وساعة الإنزال. وملخص هذه الرواية مفاده أن القنصل أخبر الباشا بالنزول وحذره من التعرض للبحارة الفرنسيين بسوء، وأن الباشا المذكور أطلع الخليفة، ليجيبه هذا الأخير : «بأنه لا دخل له في صعود أو هبوط».
أشارت بعض الروايات التاريخية كذلك، إلى وفد من القبائل المجاورة للدار البيضاء، تزعمه ممثلون عن قبيلة مديونة، اتصل بباشا الدار البيضاء أبي بكر بن بوزيد في 28 يوليوز، مطالبا إياه بثلاثة إجراءات استعجالية وهي طرد المراقبين الفرنسيين وتخريب السكة الحديدية والإيقاف الفوري لأشغال ميناء الدار البيضاء. وأضافت المصادر حيرة القائد التي انتابته بحكم الالتزامات المالية للدولة الشريفة مع فرنسا والناتجة عن قرض 1904، فقرر إمهالهم إلى يوم الثلاثاء 30 يوليوز. وحدد «مارتان» يوم اللقاء في 29 يوليوز ذاكرا أن عدد أفراد الوفد بلغ 30 شخصا. أما نائب القنصل الفرنسي بالمدينة «ميكري» فقد ذكر أن قبيلتي مديونة وأولاد زيان أرسلا وفدا للقائد باسم جميع القبائل المجاورة، الذي التقى بالقائد وبمولاي الأمين خليفة السلطان بالدار البيضاء، أما في تقرير للقنصل الإنجليزي فقد جاء فيه بأن قبائل الشاوية عقدت اجتماعا يوم 28 يوليوز، واتفق المجتمعون على إرسال وفد للمدينة مطالبا القائد بتوقيف أعمال السكة الحديدية، وعمل المراقب الفرنسي بالديوانة.
ذكر الصحافي «جورج بوردون» بدوره معلقا على الأحداث، بأن أهل الشاوية كانوا يريدون تطهير المدينة من كل وجود أوربي ونهب حي الملاح، (المغرب كما شاهدت، الأيام بالدار البيضاء 1908) ، وكان اتهام سكان الشاوية بالرغبة في نهب المدينة وإثارة الفوضى مجانبا للحقائق الموضوعية التي أسلفنا تبيانها، إذ اكتفى بالإشارة إلى نصف الحقيقة المتمثل في رغبة السكان في تطهير المدينة من الأوربيين.
وفي سياق متصل خاطب القائد بن بوزيد وفد القبائل قائلا: «ليكن، نطرد الفرنسيين، أنا معكم. لكن السلطان مدين لهم بـ 80 مليون فرنك يجب أداؤها أولا، هل عندكم الأموال؟. » كما أورد بوردون.
مرت أحداث القصف والاحتلال سريعة، فكان باشا المدينة سي بوبكر بن بوزيد أول المعتقلين عقب الإنزال واحتلال المدينة، وتم نقله على البارجة الفرنسية ديسيكس إلى الجزائر، وبعد أن أمضى فترة سجنية هناكـ، تدخل الدبلوماسي المغربي محمد الطريس (سفير المغرب بمؤتمر الجزيزة الخضراء 1906) وفاوض الفرنسيين لإطلاق سراحه، فنجح في مهمته تلك، قبل أن يعود سي بوبكر بن بوزيد إلى مسقط رأسه بمدينة سلا، وعاش زاهدا متصوفا في إحدى زوايا المدينة، وبها توفته المنية بعد حياة صاخبة بالأحداث الجسام والفتن العظام.