تمثل لائحة الحجج التي عرضها المغرب لدعم أسس حقوقه في الصحراء مثالا براديغماتيا عن قوة المخيال السياسي، الذي يسمح بأن تتعايش، في لحمة واحدة، حجج تنتمي إلى منطق ومرجعيات مختلفة، تبدو ظاهريا غير متلائمة. ففي سنة 1975، عندما وضع الملك الحسن الثاني طلبه باستشارة محكمة العدل الدولية، كانت الإمكانيات المتاحة أمامه من أجل «استعادة» أقاليم الحدود الجنوبية جد محدودة . وهكذا وجد الملك نفسه، إذا افترضنا أنه كان وراء الثلة الفرنسية جدا من مستشاري الحكومة، مجبرا على استخدام كل ما يملك، والحال أن العالم الذهني ( الواقع تحت هيمنة مبادئ تقرير المصير وحقوق الشعوب في التصرف في مصيرها وعدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار..) جعل من المستحيل مَفْهمة تجميلية للسلطة انطلاقا من نظرية الخلافة، وبدرجة أقل إثارة أي براديغم إمبراطوري ممكن، وفي إطار تصفية الاستعمار كانت المطالبة بالصحراء نفسها نتيجة الموقف الجاهز التطوري النشوئي لتاريخ الدولة كما فرضته العقيدة القانونية العامة وقتها، فكانت فكرة الإمبراطورية غائبة، بل لم تكن واردة حتى. وملف المغرب لا يحيل عليها بأي شكل من الأشكال، في حين كانت الأختام الإمبراطورية الشريفة توجد في أسفل الاتفاقيات التي تم إشهارها كدلائل من طرف كل الأطراف المعنية بالنزاع. ودافعت مرافعة المغرب، بأصوات القانونيين «الوضعيين» الذين مثلوه، بأنه «الدولة الوحيدة المستقلة في شمال غرب إفريقيا «(كما ورد في وثيقة محكمة العدل الدولية)، التي تُشْهر تَماسَّها الجغرافي بالصحراء الغربية والطابع الصحراوي لأراضيها».وبناء على هذه الاعتبارات، أكد بأن الوثائق التاريخية وحدها كافية للمطالبة بمِلْكية «مؤسَّسة على ممارسة متواصلة للسلطة»، وبتكتم، أدرج الطرف المغربي، مع ذلك فكرة ما فيها»عندما تطالب دولة ما بالسيادة على تراب ما، يمكن أن توضع في الحسبان هيكلتها الخاصة كعنصر للحكم على واقعية تمظهرات نشاط الدولة باعتبارها دلائل لهذه السيادة»، بيد أن هذا الترافع لم يذهب بعيدا في توضيح شاف لهذه «الهيكلة الخاصة».. واكتفى فقط بأن تبنى النظرية الكولونيالية لبلاد السيبة وبلاد المخزن كي يرد على الاعتراض بفاعلية effectivité السيطرة على هذه الأراضي المطالب بها.
وكان أن هذا التحجج قد ترك محكمة العدل الدولية متشككة.. حيث لم يكن من السهل إقناع القضاة المتشبعين بنظريات كيلسن( إشارة إلى هانز كيلسن، رجل القانون الأمريكي النمساوي، صاحب نظرية القانون المحضة، تراتبية الأشكال أو هرمية المعايير كما انتسب إلى حركة ما سمي بالنزعة الوضعية القانونية)، وكاري دو مالبيرغ( إحالة على رايموند كاري دومالبيرغ، الفرنسي سليل عائلة رجال قانون من أنصار القانون الوضعي للدول، وعمق نظريته هو ضرورة فصل القانون عن الأخلاق وعن الحق الطبيعي وعن السياسة، وهو أيضا مشهور بقوله إن الحق والقانون مصدرهما الدولة والدولة ذات سيادة هي من تعرف حدودها، كما كان وراء دراسة شهيرة عن التمييز بين السيادة الشعبية والسيادة الوطنية ـ المترجم). لم يكن إذن من السهل إقناع القضاة هؤلاء بأن المغرب دولة وطنية لها نوع من الخصوصية تتشكل «في جسد منها مما يسمى بدولة المخزن أي المناطق الواقعة فعليا تحت سلطة السلطان، وفي جزء آخر مما نسميه بلاد السيبة، أي المناطق التي لا تخضع فيها القبائل للسلطان[…] العبارتان معا، بلاد المخزن وبلاد السيبة تعنيان ببساطة نمطين للعلاقات بين السلطة المحلية المغربية والسلطة المركزية، وليست فصلا ترابيا، ووجود هذين النوعين من العلاقات لا يمس بأي حال من الأحوال بوحدة المغرب، وعليه بفضل عمق ثقافي مشترك فإن السلطة الروحية للسلطان كانت دوما مقبولة ومسلم بها.[..] والتمييز بين بلاد المخزن وبلاد السيبة يترجم الإرادة في معارضة، ليس في وجود هذه السلطة المركزية بل بالأحرى ظروف ممارسة هذه السلطة، وبالتالي فقد كانت بلاد السيبة، عمليا، وسيلة لِلَّاتمركز الإداري».. (وثائق محكمة العدل الدولية).
هذا الخطاب لم يكن مقنعا، القضاة لم يقروا سيادة الدولة المغربية على هذه الأراضي، لكنهم في المقابل قبلوا بحجة أكثر غرائبية تمتح من البراديغم الخليفي، لإصدار حكم أريد له أن يكون ملتبسا عن عمد، يقر بروابط تاريخية بين المغرب وبعض القبائل في الصحراء، وهي قبيلة التكنا.. ـ ويقول الرأي الاستشاري الصادر في 1974 ما يلي: (إن المعلومات والوثائق التي اطلعت عليها محكمة العدل الدولية تبين وجود، وقت الاستعمار الإسباني، روابط قانونية للبيعة بين السلطة المغربية وبعض القبائل التي تعيش في الصحراء الغربية).
وبالنسبة لأنصار الأطروحة المغربية، فإن الفقرة الأولى هي الأسمى، أي أن الاعتراف بالروابط التاريخية وروابط البيعة يساوي الاعتراف بمغربية الصحراء، التي صارت مغربية و”استعادة” هذه الأراضي ما هي إلا تعبير عن مبادئ الوحدة الترابية والوحدة الوطنية. بالنسبة لأنصار أطروحة البوليساريو فإن غياب روابط قانونية بين المغرب والصحراء الغربية يساوي حجة على الاستقلال، وهذا التذكير بروابط البيعة ما هو سوى تسخير للتاريخ من أجل إعطاء شرعية «لاحتلال» المناطق.
البيعة والقانون الدولي
المغرب لم يفلح في الاستفادة من الثغرة التي فتحها القانون الدولي وصادقت عليها محكمة العدل الدولية، التي رأت إمكانية ضم «هيكلة خاصة» إلى أنماط خاصة للحكم وللتعبير عن السيادة، كما كان حال المغرب بعد الاستعمار الكولونيالي الذي سجن البلاد في نظرية بلاد السيبة ـ بلاد المخزن، ومن أجل ذلك كان لزاما بناء نظرية للدولة خارج التصور المهيمن للدولة الوطنية. وهذا المشروع، الذي هو مشروع هذا الكتاب، يفترض علاقة ذات مصادر خاصة، تمنح الوزن نفسه للأرشيف الرسمي للمخزن كما للمراسلات والروايات والمتون السردية المحتفظ بها لدى العائلات والزوايا وللاختراقات الجديدة للهيستوغرافيا(العلوم التأْريخية) المغربية.
المغرب لم يفلح في الاستفادة من الثغرة التي فتحها القانون الدولي وصادقت عليها محكمة العدل الدولية، التي رأت إمكانية ضم «هيكلة خاصة» إلى أنماط خاصة للحكم وللتعبير عن السيادة، كما كان حال المغرب بعد الاستعمار الكولونيالي الذي سجن البلاد في نظرية بلاد السيبة ـ بلاد المخزن، ومن أجل ذلك كان لزاما بناء نظرية للدولة خارج التصور المهيمن للدولة الوطنية. وهذا المشروع، الذي هو مشروع هذا الكتاب، يفترض علاقة ذات مصادر خاصة، تمنح الوزن نفسه للأرشيف الرسمي للمخزن كما للمراسلات والروايات والمتون السردية المحتفظ بها لدى العائلات والزوايا وللاختراقات الجديدة للهيستوغرافيا( العلوم التأْريخية) المغربية.
وعلى ضوء هذه القراءة الجديدة، يظهر موقف السلطات المغربية أكثر تعقدا وأكثر ازدواجية وتضاربا مما توحي بذلك الخطابات الرسمية. وهكذا نجد أن النظرة أوالرؤية الإمبراطورية للتراب لم تختف تماما من المخيال السياسي وتقنيات (تكنولوجيات) السلطة. وقد اتضح أن رد الفعل المغربي على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية كان استعمالا سياسيا لتصور معين وخاص للسيادة التي تم إحياؤها بغايات القضية الوطنية أقل مما يعكس حضورا متزامنا لمقاربات مختلفة بل غير متلائمة للتراب والسيادة…
ونظرا لأنه لم تتم «مَفْهَمُتـ» ها أو التنظير لها، فإن هذا التعدد لم يمنع مع ذلك وجود لُعب سياسية ورهانات قوة. والازدواجية (أو التضارب) التي تتيح إمكانية التعايش بين تصورات متباينة للتراب الوطني، تقرأ أولا في الحجج التي قدمها المغرب لمحكمة العدل الدولية، وعرضها على الساحة الدولية عموما دعما لمطالبه في الصحراء [انظر دفاتر الصحراء 2015] فالخطاب المغربي، وهو يضع في مقدمة حججه، استمرار ممارسات البيعة وتعيين القياد والقضاة من طرف المخزن، وتكرار الحَرْكات (الرحلات العسكرية) والمْحَلات (تنقلات السلطان وحاشيته) وانتظامية استخلاص الضرائب، وحجم واستمرارية المراسلات، التي كانت الغاية منها أساسا حماية التراب والتفاوض مع الأوروبيين من أجل احترام حدود الإمبراطورية الشريفة، (هذا الخطاب) يتخلله قاموس، بل تيماتٌ تنتمي لسجل الدولة الوطنية: الوحدة الترابية، الوحدة الوطنية، الاتفاقيات الدولية، التفاوض حول المسألة الحدودية مع الجزائر..
وكما يبين ذلك فصل محكمة العدل الدولية. فإن مَشْكلَةَ problématisation مسار الدولة ضروري لفهم المغرب المعاصر.. والأفق النموذجمِثالي يتيح إعادة بناء ممتدة في الزمن الطويل لمختلف أنواع منطق الحكم وتصور السلطة، كما يفتح السبيل أمام قراءة تنزاح وتتميز عن أطروحات الدولة العتيقة والمتهالكة، والتحرر من البراديغم الإصلاحي سواء كانت هذه الإصلاحات من فعل المخزن في نهاية القرن 19 أو من عمل القوة الاستعمارية أو من فعل نخبة وطنية عارضت الملكية بعد الاستقلال، كما أنها قراءة تدعونا، في تزامن مع ذلك، إلى اتخاذ مسافة مع موقف جاهز مسبق لنوع من الخَطِّية التي تضع الدولة الوطنية محل الإمبراطورية الشريفة، نافية بذلك هذا «الزمن المنسوج (المُحاك)» الذي يعمل على تداخلِ ديْموماتٍ مختلفة..