بهته الجملة ختم س. فرويد كتابه الصغير الحجم الذي منحه عنوان ” مستقبل وهم “. كتاب عالج فيه المسألة الدينية، وعرض ضمنه أطروحاته حولها. لا ينعت فرويد الديانة بالخطأ أو الزيف و لكن يستعمل مفهوم الوهم. الديانة وهم. وبما أن استراتيجية التحليل النفسي العلمية هي الكشف عن أوهام النفس الإنسانية فإن إلتقاءه في طريق تحليله للظواهر الإنسانية بالمعتقد الديني لا مفر منه. يعتبر س. فرويد الأفكار الدينية أوهاما، أي، تحقيقا للرغبات الإنسانية الأكثر عتاقة، وقوة وضغطا. سر قوة هته الأفكار كامن في قوة هاته الرغبات. في هذا السياق يميز فرويد الوهم عن الخطأ قائلا بأن ما يميز الوهم هو كونه مشتقا من الرغبات الإنسانية. إنه قريب من فكرة الهذيان، لكنه مميز عنها. الهذيان يوجد على طرف النقيض من الواقع، في حين أن الوهم ليس خاطئا بالضرورة، أو غير قابل للتحقيق، أو متناقض مع الواقع.
خاصيات الوهم هته هي ما يميز المقاربة الفرويدية للدين عن الماركسية، و يجعل الدين كما يسجل ذلك بول ريكور وهو يحاور فرويد ينبع من سيمياء الرغبة وليس المعرفة أو الوعي، و من ثم تكون مهمته إشباع و ملئ و شحن رغبة لا واعية.. في صلب مهمة الدين هته تكمن كل نقاط ضعف وقوة الدين ( قوة التخدير و التبريد و شد الوعي إلى الخلف) و كذا سر قوة الدين في تحقيق نجاحاته و دوامه ( قوة التجييش و الجذب والإستقطاب والتهييج). تمفصل قوة الدين وضعفه هو المنطقة التي كشف عنها فرويد بكل دقة وعمق وربما لذلك يكون أقرب العلماء لتفسير ما يحدثة المعتقد الديني الآن في حياة الأفراد والمجتمعات الحالية. تكمن قوة الدين حسب سيغموند فرويد في كونه يشبع الفضول، هذا الذي نعته باسكال بمرض الإنسان الرئيسي، عبر منح صورة واضحة عن الخلق و أصل الكون منتهاه. ويمنح رغبة الحماية إشباعها عبر عرض الحماية الإلاهية بوصفها حماية ضد جبروت الطبيعة وجبروت كل قوى المجتمع الظالمة. مثلما يعرض قوة الدعم في المحن عبر التسامي ويكون الأمر في هذا المستوى منتجا للفن وما شابهه، لكن أيضا بواسطة التماهي مع الآباء الرمزيين من أبطال السير المقدسة والبطولات التاريخية والخوارقية. ويشرط كل هته العروض الاستيهامية بقواعد سلوكية وأخلاقية صارمة تضبطها آليات التحليل والتحريم. كل ذلك مقابل منح العرض النهائي للسعادة الأخروية والأبدية.
أطروحة قابلة للمناقشة والتشكيك والنقد، مثلها في ذلك مثل جميع الأطاريح العلمية، لكنها تفتح على نقطة ومنطقة تراض عريضة وعميقة عنوانها، لنترك قضايا السماء للكائنات السماوية، ولنجعل الأرض موطنا لقضايا الأرض، وقضايا الاجتماع للمجتمع وقضايا الشأن العام للسياسة .. مع ثلاثينيات القرن الماضي تم منع تدريس المنطق وعلم الكلام وعلم الفلك وعلوم دينية أخرى في جامعة القرويين، و بعد الاستقلال حرمت الجامعات المغربية من تدريس العلوم الإجتماعية الأساسية، و بعد إصرار وتعب نخبة من المفكرين على إنشاء معهد خاص بالسوسيولوجيا تدرس تحت يافطته العلوم الإجتماعية المتنوعة، تم خنقه قسرا ومحوه من الخريطة العلمية. وبعد إستعادة الجامعة والمعاهد العلمية المغربية لأنفاسها فتحت شعب العلوم الإجتماعية المتعددة مع منع غامض للأنثروبولوجيا ورفض واضح ومعلن للتحليل النفسي .. قد يتفهم الباحث أمر إرجاء الأنثروبولوجيا بحجة موروثها الإستعماري، لكن إقصاء التحليل النفسي لا يجد له المرء أي تبرير.
إبعاد التحليل النفسي وإلى جانبه الأنثروبولوجيا، من بين العوامل التي جعلت دائرة مجادلة ونقد و تحليل المسألة الدينية تضيق، و تتسع مقابلها دائرة الاعتقادات الوثنية. و دائرة التسامح تضيق لتتسع مقابلها دائرة التحريم. أمر فسح ويفسح المجال للأشخاص كي يشرعون باسم السماء لما يمكن تسميته بالمقدس الكلياني أو مقدس التحريم، رغم أنهم ليسو من ساكنة السماء وليسو لا بملائكة و لاعصافير.