لماذا نريد أن نجعل من السوق أساس كل علاقة اجتماعية؟ على أي أساس نتخيل أن الرابط الاجتماعي الضعيف بين الغرباء بإمكانه أن يكون أيضا أساسا لروابط المجتمع؟ هل لأن المجتمع ينتج أكثر ستكون درجات وضوحه الاجتماعي أكبر؟ رهن أهداف المجتمع بالإنتاجية والنمو يجعل رفض وإبعاد الهبة مفهوما، فطبيعة الهبة مضادة للنمو، دليل ذلك أن البوتلاش اعتبر من طرف السلطات الكندية إتلافا وتدميرا للمبادرة الاقتصادية وكذا للأخلاق. وبصيغة أخرى إنه يعيق النمو والتحديث والعصرنة. لهذا السبب سيتم اعتماد استراتيجية توسيع منطق السوق ليشمل مجموع العلاقات الاجتماعية، ومن تم تحويل المجتمع في كليته إلى ” نسق للنمو الاقتصادي “. ما الذي يتلفه البوتلاش (طقس جماعي يتم ضمنه الاحتفال والتباهي بتدمير الممتلكات الشخصية) ؟ هل يتلف الثروة أم القيم التي تخلقها الثروة ؟ هل يتلف الثروة و يدمرها أم يدمر و يتلف التصور الاجتماعي للثروة بوصفها أس الروابط الاجتماعية ؟ هل يعيق البوتلاش النمو أم يعيق نمو الحروب الآدمية ؟ ألا يحول البوتلاش و الهبة بشكل عام مسار الحروب البشرية باتجاه حروب الممتلكات ؟ ليس البوتلاش او الكولا أفعالا اقتصادية في جوهرها و أسها ، بل هي أفعال رمزية كلية تستهدف ترسيخ دوران قيم العيش المشترك . يجرد منطق السوق الهبة من طبيعتها الرمزية و الأخلاقية والاجتماعية الكلية و يعرضها مختزلة في مظهرها التبادلي الاقتصادي ، و ذلك لأجل تبرير تضادها معه ومن ثم مع الحياة الاجتماعية المعاصرة .الهبة ليست نقيض السوق ، بل نقيض العنف الذي يولده السوق ويغذيه .إنها نقيض الحذر و الخوف و الكراهية التي يولدها السوق في العلاقات الاجتماعية. وهي نقيض إمحاء الصلات و الروابط الاجتماعية و نزولها لدرجتها الصفر تحت صيغة الغرباء في مجتمعهم (السوبرماركت هو النموذج المثالي للغرباء في مجتمعهم). تحاصر نظريات السوق الهبة وتلاحقها الإيديولوجيا الليبرالية في اليومي بكل عتادها الإعلامي وإنجازاتها الاقتصادية وقيمها النفعية ومؤسساتها التربوية … قصد ترسيخ أفكار كبرى مسبقة عنها تجعل منها، أي الهبة، مقابلا للسلوك الساذج و المنافق. يتحدث الناس في اليومي عن الهبة بصيغة الماضي . لقد ولت واندثرت مع اندثار قيم المجتمعات التقليدية، لذا يظل حضور بقاياها هنا أو هناك، في بعض الأماكن، أوفي سلوكات بعض الأفراد شكلا من أشكال النفاق الاجتماعي ليس إلا . فمن يهب لا يهب بمنطق الهبة (العطاء والسخاء والإنفاق النبيل) ، بل بمنطق السوق (العطاء لأجل مضاعفة الكسب، أو لشراء معبر من معابر الربح، أو لتسهيل الحصول على مكانة في السوق). من يعطي بمنطق الهبة لا يعدو أن يكون ساذجا ولن يمكنه سلوكه ذاك من الدوام في العيش الكريم في المجتمعات المعاصرة. تروج الإيديولوجيا الليبرالية لكل هذا بناء على كون النزوع الطبيعي للناس جميعا في المجتمعات المعاصرة هو الكسب أكثر.
لكن وعلى الرغم من كل ذلك لازات الهبة حاضرة وموجودة في الحياة اليومية. ووجودها من طبيعة الوجود الإنساني التي تعمل الليبرالية المتوحشة على تدميره . الإنسان كائن علائقي و ليس موجودا إنتاجيا . و الشغف الخاص بالعطاء و تلقي العطية يرتكر بكل بساطة على حاجته كي يحب و يكون محبوبا . إنها حاجة أقوى و أعمق من الحاجة إلى مراكمة الربح و الكسب . لازال الناس في اليومي يتحدثون ويتحاورون ويتبادلون التحية والكلام من دون انتظار للمقابل ومن دون حساب لدرجات الربح والخسارة .إنهم يشكرون بعضهم البعض ويعتذرون ويتهامسون ويحكون .. وكل ذلك هبة. الكلام هبة والكلمات والتحيات هبات مجانية تستدرج الأفراد إلى دائرة الهبة المعضدة للروابط الاجتماعية. يتعلق الأمر ” بمؤسسة هبة الكلام institution du don des paroles” والتي لا تناقض السوق في ذاته، بل تناقض استدراج الكائن الإنساني إلى دائرة خراب العنف والموت. يقول مصطفى صفوان في كتابه ” الكلام أو الموت ” “لا يوجد بين شخصين، سوى الكلام أو الموت، التحية أو الضرب بالحجر” . العنف ليس أصلا للعلاقات الاجتماعية الإنسانية، بل هو هزيمة الكلام وإماتة التحية. إنه يأتي بعد انسحاب الكلام. حينما ينسحب الكلام وتضمر مؤسسته، تتسع دائرة التنافس والتوتر والغضب والحقد والكراهية… ويفسح المجال للفعل و الحركة. العنف فعل وحركة، لكنه فعل وحركة مغايرتين لفعل وحركة الهبة. حركة العنف تعمق الشرخ والجرح، لكن حركة الهبة تطفئ نار الجرح وتضمد الشرخ. الهبة عطاء للأشياء والكلمات وهي أيضا حركة بسيطة un geste . حركة الهبة رمزية رغم مظهرها الشيئي، وقوتها رمزية رغم صغر أو كبر مضامين الحركة الموهوبة. “قم بحركة أو فعلun geste ” ذاك هو أمر الهبة . “الحركة والفعل هو ما يهم c’est le geste qui compte”. تلك إحدى قواعد الهبة التي تمنح للفعل جلالته وليس للشيء. حركة وفعل العطية أو الهدية يعيد العنف المحتمل إلى مخبئه ويشهر تجدد الروابط الاجتماعية، مثلما يمنح للكلام قيمته الاجتماعية.