صحافة البحث

“حياكة الزمن السياسي” (6).. دار إيليغ في سوس والمخزن !

- الإعلانات -

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

في الفرق بين الطاعة والولاء… والخضوع

من أجل إدراك جيد لنوع العلاقة التي كانت تربط في تلك الفترة السلطة المركزية بـ«سوس»، يمكن الوقوف، مع المختار السوسي، عند الزيارة التي قام بها الأمير مولاي عبد العزيز الذي سيصبح سلطانا من بعد، إلى ضريح سيدي احمد الموسى. وتندرج زيارة الضريح التي قام بها الابن المفضل للحسن الأول ضمن إرهاصات تلك العملية الكبيرة، التي ستدوم ثلاثين سنة، والتي عبأ فيها السلطان كل الوسائل الممكنة التي كانت لديه لمواجهة الضغوطات التي مارستها القوى الأوروبية..

وقد خصص المختار السوسي كتابا كاملا لـ«دار ايليغ» بدون أن ينعتها لا بالدولة ولا بالإمارة. وإذا كان قد وصف أُبَّهة هذه الحكومة القروية ووقف مطولا عند ثرائها بما في ذلك الثراء الثقافي، فهو مع ذلك لا يعتقد في وجود تناوب سلالي، أو نزاع حول الشرعية، وغياب المخزن في تلك الأماكن، وإجبارية التفاوض والحيلة وإظهار حسن النية، كما هو حال النزاعات التمردية المؤقتة للدور المحلية، لا ينظر إليها كمحاولة استقلال ذاتي، ويصر السوسي على لحظة تيه أوْ زَيَغان الحسين بن هاشم، والذي اعتقد بأنه أمام مخزن ضعيف فأمر كاتبه الخاص بتحرير رسالة ينقصها الاحترام والود ردا على ما اعتبره تنقيصا منه، ولكن الكاتب، بالرغم من بداوته، تصرف باعتباره متعلما رفض التجديف في المرسل إليه وتنفيذ أوامر سيده مخاطرا بحياته.

وكل المؤلفين الذين نستعمل متونهم يشعرون بنوع من انعدام الراحة في توصيف الدولة قبل الحماية، فهم يشعرون بإعجاب إزاء العمق التاريخي /أصالة نظام سياسي مثل دار إيليغ ولكنهم في نفس الوقت عاجزون عن تحديد طبيعته، نظرا لأنهم تحت تأثير كبير لنموذج الحكم المهيمن في الدولة الوطنية، والتي استبطنوا فعاليتها وشرعيتها.

السرديات الكثيرة حول علاقة الحسين بالسلطان ترسم خيالا تختلط فيه، في علاقة قوية ومفارقة، الحرية والاستقلالية والحكم الآتي من جهة والخضوع والتبعية من جهة ثانية. نجد الصداقة والحيطة، التعاون والمواجهة، مجمل هذه التناقضات تفضي إلى بنية سياسية متعددة الألوان تتيح الحكم. والصفحات التي ستلي تقدم هذه الأنماط الخاصة في الحكم التي تكشف عن تصورات خاصة للسيادة..

وما نقوم بتحليله كتعايش بين مختلف مستويات الحكم يدعو إلى التفكير في الفرق الموجود بين الخضوع، الطاعة والولاء..

فهذه السرديات والنصوص توحي بأنه يمكن أن يحل الخضوع بدون أن يعني ذلك الطاعة، والولاء بدون الطاعة أو الخضوع، أو أن يكون الفرد خاضعا وطائعا بدون ولاء..! وما يمكن اعتباره مظاهر عدم التلاؤم والانسجام في نظام الدولة الوطنية يحيل في النظام الإمبراطوري على شيفرات سلوك تحكمها مفاهيم من قبيل الشرف والكلمة والقاعدة …

ومن أجل إبراز هذا الواقع، اعتبرنا أن من الحصيف الابتعاد عن الأرشيف، الأرشيف الذي بحوزة الدول الكولونيالية كما الأرشيف المحتفظ به في المغرب والمتمركز حول الوجوه الكبيرة والتاريخية والبحث عن حقيقة الواقع هذه في المراسلات الغزيرة وغير المستغلة غالبا، والتي تعيد تركيب كل التنوع المرتبط بـ«بروفايلات »الوسطاء، ويمكن التأكد من ذلك في فهرس الأسماء الشخصية الذي نشرته جامعة ابن زهر انطلاقا من الكتاب الضخم « المعسول»، وهو موسوعة الإسناد لشخصيات سوس العميقة حررها المختار السوسي، وهذا الفهرس الخاص بالشخصيات البارزة يبين تنوع الوضع الاعتباري للنخبة المحلية.

المخزن والطالْبْ

كان مشهد الحركة التي قادها الحسن الأول في 1882 مثيرا للغاية، وإِنْ كان هدفها، حين وصولها إلى حدود واد سوس هو أن تترك صدى معنويا أكثر من خوض معارك. أما الخضوع فقد كان نتيجة للعديد من المفاوضات، وما سماه السلطان “السياسة”، (بمفهوم ساس يسوس الخيل أي تربيتها وترويضها)، كما كان الوسطاء عديدين سواء من شخصيات الصف الأول أو مجرد جنود الظل، وكان مولاي العربي الازودي، الذي سيرد اسمه من بعد بصفته الوظيفية، واحدا من بين آخرين…
ففي أقل من أسبوع، أي ما بين 8 و17 يوليوز 1882، توصل (الطالب) بست مراسلات، في المراسلة الأولى، طلب منه السلطان، الذي كان قد أقام معسكره على حدود سوس الرمزية ، التوسط لدى قبائل المعذر للالتحاق بالحركة، من جهة وادي «والغاس».
وفي 11 يوليوز توصل الطالب برسالتين الأولى من أحد وجهاء القصر محمد بن المكي الجامعي، يطلب فيها بركته بواسطة حجاب ويتحدث عن مبعوثين اثنين يود دخولهما على السلطان، أما الثانية، التي تم تسليمها من طرف أحد أعوان المخزن فتخبره بأن رسالته قد تم التوصل بها وتم نقلها إلى السلطان وأن رد هذا الأخير يوجد ضمن المرفقات.. وهي رسالة طويلة جدا، ومتقنة البناء على طريقة رسالة رسمية، وفيها يصف السلطان الطالب القروي بالصديق (محب جنابنا) كما يفعل بالشخصيات المرموقة التي تخدمه بعد انتقاء.
تتكون الرسالة من جزئين يتضمن الأول عناصر الخطاب المرسل والثاني يتضمن الجواب عليه نقطة نقطة. يبدأ السلطان بالإشارة إلى أن (الطالْبْ) قد أخبر السيدين أحمد ابلاغ**** وموسى بن بقاش بتعيينهما كقائدين، ونقل قرار «الأمان» للقبيلة وبركته، وشهد على فرحتهم بها وخضوعهم تبعا لتعاليم القرآن والسنة.. ويضيف السلطان بأنه صار يعرف بأن الشيخين يستعدان للالتحاق بموكبهم عند تيزنيت ويختم هذا الموجز، بالقضية الأكثر أهمية وتخص موضوعه الأكثر إشاكلية، ألا وهو رئيس مدرسة «إيليغ» الحسين، ويسجل السلطان أنه يعبر عن رضاه بكون الطالب قد أخبر «المرابط» كتابيا يطلعه على حسن نيته ويدعوه إلى «الالتزام بالجماعة وعدم الخروج منها»، ويسجل كذلك بأن حسين إيليغ قد قال بأنه «لا ملجأ لديه إلا الطالب» وأن هذا الأخير يدعو له برضى السلطان وعطفه ليمحو بذلك ما كان تناهى إليه من أخبار سيئة بخصوصه.
وفي الجزء الثاني من الرسالة، يرد السلطان على كل نقطة بدون احترام ترتيبها الوارد في الجزء الأول، ويبدأ بالقضية المتعلقة بزعيم إيليغ، وفي هذا يقول بأنه “قبل ضم هذا الأخير المنشق رفقة الطالب هو ومن معه”. يقول بعد ذلك إنه بارك الشيخين اللذين تم إقرارهما وتعيينهما قائدين لقبيلتيهما، قبل أن يعود مجددا إلى حسين ايليغ، والذي خصص له فقرات طويلة مليئة بالمضمرات يبرز فيها عدم قبوله بالحيطة التي عبر عنها هذا الأخير إزاءه، ويقوم السلطان بتزكية الضمانات التي أمدها للطالب الحسين، وأعاد التذكير بالرابط الذي يربط هذا الأخير بالولي سيدي احمد الموسى ..جده. وهذا التلميح إلى ولي سوس يتيح للسلطان بقبول ما يعتبره «زيغان» ولد من أولاد ولي كبير. وقد كتب السلطان بأن الحسين «من سلالة ناس خيرين وأن زاويتهم، من أفضل الزوايا المغربية (كذا) حتى أنه قال بأن ضريح سلفه حج صغير« (صفة مغربي هنا لها دلالة من حيث الوعي بمغربية الديانة أو تعبيرها المغربي الخاص..).
وبدون إشارة واضحة للمبارزات الثنائية بينهما عندما كان «خليفة»، فإنه لم يتردد في التذكير بأن الحسين خدم مصالح المخزن عن بعد. وفي الفاصل بين هذا وذاك، يلمح إلى أنه يعرف بأن هذا الأخير، الحسين «يعتريه الخوف بسبب سوء التدبير»، ويترك الغموض يخيم بالتوجه إلى الطالب بهذه العبارات «هي مسألة علمنا بها ولكن لا تحملْ هما لها، أمَّننا لله وأمَّنك من المخاوف التي غذتها مصادر أخرى»، قبل أن يسرد خطورة الأخبار التي وصلت بخصوصه، والتي من شأنها أن «تزيل الفرحة وتجعلنا نشيح عنه بوجهنا والحكم عليه بأنه عاص متمرد».

مراسلات السلطان الحسن الأول مع عالِمٍ قرويٍّ صغير

وبدون إشارة واضحة للمبارزات الثنائية بينهما عندما كان «خليفة»، فإنه لم يتردد في التذكير بأن الحسين خدم مصالح المخزن عن بعد. وفي الفاصل بين هذا وذاك، يلمح إلى أنه يعرف بأن هذا الأخير، الحسين، «يعتريه الخوف بسبب سوء التدبير»، ويترك الغموض يخيم بالتوجه إلى الطالب بهذه العبارات»هي مسألة علمنا بها ولكن لا تحملْ هما لها، أمَّننا لله وأمَّنك من المخاوف التي غذتها مصادر أخرى»، قبل أن يسرد خطورة الأخبار التي وصلت بخصوصه، والتي من شأنها أن « تزيل الفرحة وتجعلنا نشيح عنه بوجهنا والحكم عليه بأنه عاص متمرد».
غير أن السلطان، ومباشرة بعد الجملة الموالية يستعيد لهجة مطمئنة حيث يكتب بأن فرضية حسين معارض «لا تخطر له على بال»، كما أن البقية تسير في التقنية الرفيعة للتلميحات وتعطينا فكرة عن الفن الرفيع للسياسة كما يفهمها السلطان،» كيف لنا أن ننزله من هذا الموقع العالي أو أن نسمح بأن يصيبه ضرر ولا نقبل بأن نعطيه عنايتنا.. أنجانا لله من إطفاء هذا المصباح وليطمئن المرابط نفسا» وبهذا الحدب الظاهر يضع الطالب في قلب الشفاعة ولا سيما عندما يكتب «وجوابا على شفاعتكم أخبر المرابط بقرارنا وأعلمه بأننا أفضل من يحفظ شرفه حتى ولو كان المتآمرون لا يدخرون جهدا، وضعفت قوته وتجاوزه الأمر، نتبع في ذلك سياسة أسلافنا وإنْ نريد إلا الاصلاح..»
في 17 يوليوز 1882 أخبر عون من أعوان المخزن الطالب أنه توصل ونقل الطرد الموجه إلى أرسلان وأنه يحمل له الجواب رفقته. وفي الرسالة السلطانية المؤرخة بنفس اليوم يسجل الحسن الأول تنقل الطالب إلى ايليغ لإبلاغ التعليمات إلى حسين والاستماع إلى إرادته في تحريك القبائل باتجاه الجبل وحث بلاد سلالته (أبناء قبيلته) على الانضمام إلى السلطان والموعد الذي ضربه السلطان يوم الاثنين. وفي نهاية المطاف نجد أن حسين لم يأت إلى تيزنيت بل أرسل وفدا (من ضمنه أحد أقربائه أو ولده) ونقل ممتلكاته النفيسة إلى حرم الولي الصالح واختبأ في الجبل، وباستثناء لقاء سري وصفه بول باسكون، في الوقت الذي كان فيه السلطان مازال «خليفة» فإن اللقاء وجها لوجه بين حسين والسلطان لم يحدث أبدا.
المجموعة الثانية من الرسائل، وعددها 5 تمتد من 18 مارس إلى 19 يوليوز 1883، وآخرها رسالة مرسلة من طرف عون من أعوان المخزن وتوصيل بوصول خطاب من السلطان لم يعثر عليه المختار السوسي. والحال أن التأريخ الموسع والتقْريضي للسلالة العلوية لصاحبه الناصري، والذي يعد من أهم مصادر الهيستوغرافيا المعاصرة للدولة المغربية لا تحتفظ لا بسنة 1883 ولا السنة التي تليها وتنقل مباشرة إلى سنة 1885، والتي لا يحتفظ منها سوى ببعض الأحداث البسيطة: وفاة عالمين من سلا القباب (الأطلس المتوسط) ومطاردة الإسبانيين للجمارك في الموانئ بعد الانتهاء من دفع الديون المترتبة عن حرب تطوان.
غير أن تحليل مراسلات الحسن الأول التي تم نشرها في مختلف المصنفات تكشف ملكا يتصرف سنة 1883 في مسار الحكم قريبا من سلطة رأس دولة وطنية من قبل تدبير أزمة وسط الطائفة اليهودية في فاس(14 فبراير)، الانشغال باقتناء الممتلكات العقارية من طرف الأوروبيين في الشمال (28 يونيو)، المعالجة السرية لتحركات وتصرفات بوعمامة (12 ماي) مواجهة الفرنسيين المستقرين على الحدود الشرقية (27 غشت)، سك عملة جديدة (23 غشت) ومعاقبة أهل ازعير (22 شتنبر) أو معاملة «المحميين» المغشوشين الذين يرفضون الخضوع لنظام المخزن (28 أكتوبر)…
يجب القول إن غضب الإسبانيين والإنجليز كان في أوجه، حيث كان الأولون يشترطون تطبيق اتفاقية تطوان، والتي تتيح الطريق لبناء ميناء على طول الساحل السوسي، في حين كان الآخرون يدافعون بحماسة عن مصالح مواطنهم ماكنزي الذي كان يطمع في التبادل التجاري مباشرة مع دار بيروك وايليغ.
يوم 18 مارس 1883 كتب السلطان إلى الطالب يخبره بأنه تناهى إليه خبر وصول باخرة تحمل الأرز والشعير وغيرهما من المواد الغذائية إلى سواحل أيت بعمران، وأن الباخرة تم استقبالها استقبالا حسنا من طرف القبائل بالرغم من تحذيرات السلطان، وينبه الحسن الأول بأنه يعلم الطالب بهذا كي لا يدخر أي مجهود لتقديم النصح للساكنة ولعن المفسدين(…) لأن الناس الطيبين والعارفين بالدين والأصول معروفون بالتزامهم بدعم الدين والدفاع عن مصالح الإسلام…لاسيما إذا كانوا من أهل العلم (مثله) الذين يعتبرون ذلك واجبا شرعيا «. وفي 5 ماي، وجه السلطان رسالة إلى الطالب، والذي يسجل فيها توصله بمكتوب لهذا الأخير يخبره فيه بتوجهه إلى أيت بعمران رفقة عم السلطان مولاي لكبير الذي كان يحمل رسالة. وكتب السلطان بأنه راض عن السرعة التي نفذ بها الطالب الأمر وشكره على مجهوداته المبذولة لإنجاز المهمة..