كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
في الـ16 من ماي كتب السلطان رسالة إلى الطالْب، طويلة نوعا ما ومتقنة. وقد بدأها بالتذكير بعناصر رسالة سابقة عليها كتبها الطالب ذاته يقدم فيها تقريرا عن مهمته لدى أيت بعمران، معلنا نهاية الأزمة ويعتذر عن التأخير في إيصال خبر ذي أهمية بالغة ـ فتح نقطة تجارة على الساحل ـ ويطلب فيها الرحمة والرضا عن المتمردين الذين انتهكوا تعليماته. وبعد هذا التلخيص يجيب السلطان بأنه يقبل اعتذارات الطالب لكنه يلح على أنه لا يمكن أن يستغني عن « معلوماته لأنها معلومات موثوقة وصريحة» ولهذا «يجب أن تصل لأول وهلة» ويقبل بعد ذلك التسامح مع القبائل لأن ذلك «هو السلوك العادل»، وينهي مراسلته بالتعبير عن انشغاله بالجوع الغذائي في المنطقة، ويأخذ علما برفض التجار تمويل المنطقة بسبب صعوبات الإبحار ومخاطر النهب والسرقة، وقرر التعويض بباخرته الخاصة المملوءة بالحبوب، ويعرب عن قلقه الدائم «لوجود النصارى عند هؤلاء السكان».
وفي 27 يونيو يسجل السلطان توصله برسالة من الطالب فيها تقرير عن التوعية في المنطقة، ويثير نقطتين اثنتين: استحالة أربعة قبائل من آيت بعمران في الانضمام إلى الحركة، ثلاث لأسباب تهم الحرب والرابعة بسبب وفاة قائدها، ثم النقطة المتعلقة بالنشاط الدعوي لفائدة شريف محلي لفائدة السلطان، وطلب الطالب بـ”مساعدة تلك الشخصيات المباركة المؤثرة على المستوى المحلي”.
يجيب السلطان على كل هذا نقطة بنقطة: ويبدأ بالصفح ببرودة عن القبائل التي لم تنضم، ويلح على ضرورة التحاقها بالحركة بمجرد عودتها من الحرب، ويقدم تعازيه للقبيلة التي فقدت زعيمها، دون أن يغفل تذكيرها بوجوب طاعة الإمام (أي هو نفسه) لأنها من طاعة الله، مستشهدا في ذلك بآية قرآنية، أما بخصوص مطالب العناية بالرجل المبارك، فإن السلطان لم يعط جوابا لذلك مكتفيا بالقول إن «الشخص إياه قام بواجبه فقط».
السلسلة الثالثة من الرسائل جاءت بعد سنتين من هذا التاريخ، وكان الطالب هذه المرة هو الذي بادر إليها. فبعد أن صار أحد الأعيان الكبار الذي زكَّاه السلطان يسمح لنفسه بسلوكات يمكن تصنيفها اليوم بالشطط في استعمال الموقع، فبالرغم من أن نفعه والحاجة إليه قد تضاءلا، وفقد ما كان يميل إلى المزج بين مسائله ومسائل الدولة (يقول المختار السوسي في الرسالة الطويلة التي خصه بها، إن جده لم يمت غنيا بالرغم من أنه عاش في الوفرة. وقد سمحت له شهرته وعصاميته بأن يصبح عاملا محترما، مطلوبا في تسويه الخلافات والحكم بين الناس وحسن الخلافة علاوة على مهنته كطالب مشارك لمدرسة يؤمها حوالي مئة من الطلبة، وقد كان تحرير وثائق الإدارة ما بين 3 إلى 5٪ من القيمة الخاصة بالإرث، علما أن مرسوم السلطان كان يعفيه من مشاق ونسبة الضرائب التي تعود إلى الدولة، وتضعه في مأمن من تجاوزات القياد المحليين، وتسمح له بأن يستخلص الضريبة التي يدفعها أهل المعبر لفائدته الشخصية. ويحكي السوسي أنه ذات يوم “توصل الطالب بهدايا من السمن كثيرة إلى درجة أن الممرات لم تعد كافية للاحتفاظ به، فما كان عليه سوى أن يفرغ غرفة نظف أرضيتها لكي يضع الزبدة”!
في رسالة أولى مؤرخة بـ24 يناير 1886، يذكر السلطان أنه توصل برسالة تخبره بتدهور حالة جسر واد والغاس وطلب منه إخطار القبائل المجاورة لأجل إصلاحه، ثم نقل إليه السلوك غير المقبول لشيخ زاوية تمقديشت الذي يشتكي منه المريدون، وقد أجابه السلطان بأن “ما يتعلق بالجسر فقد أعطى أوامره لعماله في القبائل” لكنه يحجم عن إدانته لشيخ زاوية.. وفي رسالة أخرى مؤرخة بـ4 ماي 1886 تفاعلت السلطات مع طلب شخصي للطالب له علاقة بممارسة مهنته “عدل”، حيث كان الطالب قد سبق له أن كاتب السلطان بخصوص خلافته كما رتَّبها زميله بن ابراهيم الذي اتهمه بتزوير توقيعه، وقد قال السلطان بأنه مقتنع بأن الطالب ليس على خطأ، وفي رسالة تالية في نفس التاريخ يخبره بأن شفاعته قد نجحت، وقد مكن المعني بالأمر، وهو محمد بن حسن غلولي، من ظهير التوقير والاحترام…
في العاشر من يونيو 1886 توصل الطالب برسالة من أحد أعوان المخزن يخبره فيها بأنه استشار السلطان بخصوص عقد عدلي يتعلق بتحكيم قام به الطالب لعرضه على السلطان كي يضع عليه خاتمه بالترخيص، إضافة إلى طلب ظهير بالتوقير والاحترام لفائدة اثنين من أصدقائه. وقد كان رد السلطان عن طريق خادمه جافا، وهو أن أعراف القصر لا تنص على التوقيع على عقود العدول الخاصة، أما في ما يخص طلب الظهير فإن الرسالة تقول إن الأول يرد في ظهير مسلم إلى شقيقه ورفض الثاني، وينهي العون الملكي رسالته بالقول بأنه يعيد الوثيقتين المرسلتين إلى السلطان من طرف الطالب، ونرى أن الأسلوب تغير في هذه المجموعة الأخيرة من الرسائل، وحتى وإن كان الطالب يوصف دوما بصديقنا المبارك ويحتفظ بمكانة متميزة باعتباره وسيطا له مصداقية من شأنه الحصول على امتيازات لفائدة أصحابه، فالردود مقتضبة وأحيانا رافضة له. والرسالة الأخيرة التي علمنا بها مؤرخة بـ23 نونبر 1898 تحت حكم السلطان عبد العزيز، ونرى أن الكثير من الأشياء تغيرت، والدولة فرضت سطوتها على المناطق البعيدة، وهذه المرة لا يملك الطالب الوصول المباشر إلى السلطان، حيث أن خادما بسيطا من خدام المخزن هو الذي يستلم المراسلة التي تطلع السلطان على أن المستخلصات(لعشور) التي كانت تسلم له عادة من طرف ساكنة المعادير لم تعد تسلم له، لأن المخزن قد عين أحد خدامه لاستخلاصها لفائدة الخزينة، ويرد الخادم بأن السلطان أخبر بالأمر وأنه يطلب منه مجموع المبلغ الذي يطلبه، ويبدو من خلال التبادل بأن صاحبنا الطالب لم يعد ذا نفع كبير، ولكن السلطة تحتفظ به في وصفه الاعتباري بدون منحه مع ذلك رخصة جمع الضريبة. وكما هو أمر حسين في زمانه، لا يريد السلطان إهانة خادمه ولا أن يصنفه نهائيا في خانة خصوم المخزن المنسيين، بدون أن ينكر إرساله لخدمه من أجل تحصيل (لعشور)، والتي صارت تسمى من بعد «ترتيب» بعد الإصلاح الجبائي، فإن السلطان يبدي بعضا من العناية بطلب المبلغ الذي ضاع فيه، ولا ندري ما إذا كان قد عوضه أم لا، ولكن المؤكد هو أن المختار السوسي ينهي بيوغرافيا جده من والدته بالقول إنه لم يمت غنيا جدا..