كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا.
كان يمكن لرسالة واحدة أن تتضمن العديد من المواضيع وقد كانت الرسالة المؤرخة ب18 ماي 1862، تأكيدا لمسألة وجهت قبل يومين من طرف الحاجب السلطاني وتضمنت نفس المحتوى. حيث أن السلطان يخبر فيها بتوصله بتقرير عن الأعمال التي تمت بعد إخلاء المدينة (تطوان) ولا سيما مصير الخشب الذي تركه الإسبانيون، والذي عرضت ملكة إسبانية منحه للتطوانيين، ثم تعيين موظفين منهم القاضي والمحتسب، تحديد وجهة خشب البناء الذي أعطته الملكة للوقف الإسلامي الحبوس، ورفض استعماله في اصلاح المساجد. وفي 26 يونيو 1862 أبدى السلطان انشغاله بأجرة 150 جنديا من حرس المدينة، وأجاب في نفس المراسلة عن طلب للقنصل الإسباني الذي عبر عن رغبته في معاملته كما تتم معاملة القنصلين الفرنسي والإنجليزي، وفي 8 يوليوز 1862، وفي رده على قائد قروي يطلب فيه من السلطان تعيين أحد مساعديه في تطوان لجمع المستحقات من أبناء القبيلة المهاجرين، أمر السلطان العامل في المدينة بالتجاوب مع طلبه هذا تحت بعض الشروط الشكلية الرسمية ومنها مكتوب خاص لكل عملية من العمليات، وابتداء من 10 يوليوز 1862، بدأ السلطان يهتم بتمويل المنطقة بحبوب القمح ومواجهة ارتفاع الأسعار الذي تسببت فيه الندرة التي أعقبت سنوات الحرب. وقد كلف intendant مقتصدا أو متعهد مؤن بتمويل سوق تطوان بالقمح القادم من الجديدة، وفي 4 يوليوز 1862، رخص لأحد التجار بكراء باخرة للحبوب شريطة الاكتفاء بأقل أرباح ممكنة، وأن يتم كراء الباخرة في أجل شهرين، كي لا ينافس التجار التطوانيين الذين اكتروا 4 بواخر لجلب الحبوب القادم من أسفي، وفي الأخير، في 30 يوليوز 1862، أرسل بواسطة ممثله في آسفي الطيب بنهيمة (جد إدريس بنهيمة الذي سيرد اسمه في الفصول 4 و5 7 و9 (7 آلاف وزنة من القمح إلى تطوان، وقد قال داوود بأنه قمح اقتناه المخزن وبيع في الأسواق بثمن شرائه، أي بدون ربح.
السياسة الدينية أيضا لم يتم إغفالها حتى ولو لم تكن قضية الدولة، ففي 12 شتنبر 1862، أثار السلطان قضية القاضي عزيمان (عائلة عزيمان التطوانية والتي يرد اسم أحد أبنائها عمر في الفصول 2 و3 و9).. القاضي الذي عين حديثا، وذلك بوضع حد لحرية الاتفاق وتقييدها وحصرها في 4 أسماء من العلماء المرخص لهم لتقديم الرأي في القضايا الدينية، وباعتبار أن الإرادة المتناقضة هاته ضرورية لعمل العدل. وفي نفس الاتجاه، يخبر عامله بأنه طلب من أحد العملاء الصوفيين، الذي تم نفيه إبان الاحتلال بالعودة إلى المدينة بالإلحاح على أهمية هذه العودة لضمان التوازن الروحي في المدينة.
هذا الاهتمام والتكفل بالمدينة وسكانها لا يترجم بوجود دولة العناية، بالمعنى الذي أعطي لها في النصف الثاني من القرن 20، بالنسبة للساكنة التطوانية التي خربت حياتها الحرب، والتي طالبت بالتعويض، أجاب السلطان برفض الطلب (رسالة 14 شتنبر 1862) متعللا في ذلك بأن الدولة غيرمسؤولة عن الأمن العام في حالة الحرب، مضيفا بأن اللصوص والنهابين لا يمكن التعرف عليهم بسهولة مستدلا في ذلك بمثال الصويرة، المدينةـ المخزن التي تم نهبها من طرف قبائل الشياظمة وحاحا.
بيد أن الدولة المستثمرة، المنشغلة بالنشاط الاقتصادي موجودة بحيث أن العديد من الرسائل تظهر بصورة غير جيدة المخزن المفترس وقد بيَّن دانييل شروتر في كتاب عن تجار الصويرة بأن الدولة كانت قادرة على الأنشطة الاقتصادية الرفيعة (الفصل السادس عن السياسة التجارية والفصل السابع عن الإصلاحات في مواجهة الضغوط الأوروبية). وفي 24 شتنبر 1862، منح السلطان قرضا بـ 100 ألف مثقال لتجار تطوان، وحدد أجلا 6 أشهر لإرجاعه، وقد أستفاد منه 20 تاجرا، تم تثبيت ديونهم أمام عدل، في حين تم نقل الأموال إلى تطوان بواسطة المكلفين بالموانئ.. في الرباط والعرائش وطنجة، وطالب السلطان بعدم تبيان العقود مرتين في سجلات المكلفين الذين نقلوا والذين تلقوا الأموال وألح على أن يرسل العامل نسخة من السجل في تطوان حتى يتسنى للمكلفين المبعوثين بمراجعة ماكتبه، واشترط إعادة النظر فيها حتى تتناسب مع التجار الذين يجدون صعوبات في رد الديون. وتبين هذه الرسائل والتي تلتها سلطانا منخرطا ومعنيا مباشرة بإدارة المدينة وتمويلها وفي الحفاظ على الأمن فيها (عبر المفاوضات أو تعبئة القوات لدى القبائل الحدودية وفي سياسة التسلح ـ إلى درجة الاهتمام بنوع البنادق التي تمت ملاءمتها مع عادات المجندين ـ وفي العناية بالخيل التي تستعمل في الخيالة، وفي السياسة المالية ذات الصلة باستخلاص الضرائب وتفويضها عبر صفقات معلنة، والسلطان يفكر هناك كرجل دولة، ودركي ورجل العناية الإلهية..، ينشغل بالتفاصيل كما ينشغل بإنتاج المعايير، وبالرغم من القاموس العتيق للكتابة، تبرز تقنيات ذهنية جديدة تنتمي إلى منطق الإدارة، بل المنطق المرفق العمومي (المصلحة) وخلاصة القول إن “ملامح ” الدولة الوطنية موجودة بما لايدع مجالا للشك في الإمبراطورية “زمن المحلات”، (تلميح هنا إلى كتاب لويس ارنو 1952).
يمكن أن يعاب علينا عدم تمثيلية هذين الفضاءين، وأننا لم نتحدث سوى عن مسارات الإمبراطورية، وهذا النقد يستند على فكرة كون الدولة مكونة من مركز ومن ضواحي تمَّ العمل على استقرارها. والحال أن المركز في الإمبراطورية الشريفة متنقل ويتحرك، وعلاوة على وجود العديد من المدن الإمبراطورية ( العواصم) وحاشية متجولة، نجد أن كل وضعية تُبْرز مركزا وضاحية. في سوس زمن الحركة، كان المركز هو تمنيت والضاحية هي جبل باني ومن ثمة الصحراء. وفي الشمال كان المركز تارة الرباط وفترة فاس وأخرى طنجة والضاحية جبال الريف وتطوان في قربها من سبتة. والهوامش لا تتحدد بناء على قربها أوابتعادها المجالي الترابي «أهل آزمور» بين الرباط وفاس كانوا الهوامش كما كان سهل «الرحامنة» بين مراكش وفاس بالرغم من تمركزهم في قلب الإمبراطورية الشريفة. ونجد في الحالتين موضوع الحديث، بالأساس سوس المتمرد والشمال المخزني يبرزان اتساع طَيْف أفعال دولة تعمل تحت الإكراه أو بقناعة بأنماط حكم مختلفة بل متنافرة غير أنها مكيفة مع كل حالة حالة. واستثنائية اللحظة التاريخية ليست موضوعة موضع سؤال هنا حيث نجد هذه الملامح نفسها التي تميز حكومة إمبراطورية ذات جوانب متعددة زمن مولاي إسماعيل كما في زمن المنصور السعدي، وهذه الدولة تتميز بوضوح عن نموذج الدولة الوطنية، لكن ليس عن نموذج الدولة الواعية بوجودها وحدودها الترابية ومكوناتها البشرية ومسؤوليتها المحددة حسب مرجعية ثابتة في القانون والتقاليد الإسلامية. وهذه المرجعية لا يجب قراءتها كخطاب للشرْعنَة، بل إنها تنتمي إيضا إلى نمط إجرائي قانوني، وهذه الدولة ليست بروتو ـ دولة وطنية أي نموذج جنيني لها ولا دولة وطنية في طور البناء وأنماط التحكم فيها تقترب أو تبتعد بهذا القدر أو ذاك من النموذج المثالي لهذه الدولة الوطنية حسب الظروف والسياقات وموازين القوة. كما أنها تتحمل بوعي الانقطاع في انتشار سلطتها وأحيانا حضورها المادي، وتعدد الأنظمة في القياسات والمكيال، والعملة المتداولة، وتعدد الأنظمة القانونية، التي تصل إلى حد أولوية الأعراف المحلية على القانون الإسلامي، تترجم تصورا خاصا للسيادة وليس التخلي عنها، وهوما يشبه نوعا من اللامركزية قبل وقتها( ويتعلق الأمر في الواقع بلامركزية بالمعنى الذي أعطاه فيبر للحديث عن حكم عبر أعوان لهم مصالحهم الخاصة بهم، في الأنظمة الباتريمونيالية الابوية ). وهذا النمو في الحكم بانقطاعاته وفراغاته، والغائب بعض الأحيان، لا يفكر به باعتباره ضعفا أو خللا، بل إن المجال الترابي ينظر إليه باعتباره كلا لا يتجزأ معروفة خطوطه، والتي تتم موضعتها حينا باعتبارها حدودا لدولة وطنية تواجه غيرية (آخر) متوقع في فضاء لا تتحدد هويته في الدين، وتارة مفازات تمارس فيها السلطة السيادية للدولة الإمبراطورية على الأفراد والجماعات أكثر من ممارستها على المجالات الترابية..
الإبداع من أجل محافظةٍ أفضل!
إن السياق التاريخي الخاص للمواجهة مع القوى الكولونيالية لم يكن من آثاره تغيير أسس هذا التصور السياسي للنظام والفوضى، للسلطة والحكم وللسيادة والمسؤولية، بل كان من نتائجه توسيع قدراته على الإبداع والابتكار من أجل الحفاظ على جوهره .. و”الإصلاحات” لا ترسم مشروع للقطيعة بل جوابا حالة بحالة عن وضعية غير متماثلة: هذه “الإصلاحات ” التي أولتها القوى الأوروبية باعتبارها استراتيجية تخطيطية تسويفية، وتعبيرا عن شخصية “ماكرة” وسيئة النية، فهي تشكل في غالبها حلولا قصوى للتخفيف من آثار هذه النوعية غير المتماثلة وليس تغيير مسارها. وما يسميه المؤرخون إصلاحات تمتح جذورها في الواقع من سلسلة من التغييرات تنتمي إلى سجل الدولة الوطنية ـ من قبيل مراقبة الحدود وتشكيل جيش، وهيكلة نظام جزائي معين، ولا يمكنها أن تكون إلا جزئية، لاعتبار أن المشروع الأوروبي للاستعمار يتضمن مميزات إمبراطورية لا سيما نظام «الحمايات» الذي ينشئ تعددية في الأنظمة وسيادة مشتركة، وتشهد كل كتابات القرن ال19 أن هذه الإصلاحات، المصنفة “غير مكتملة” أو ” غير تامة” أو المستحيلة من طرف مؤرخي الدولة الوطنية هي تتحقق أساسا تبعا لمنطق إمبراطوري.. وحتى ولو كانت هناك حروب وهزائم، فإن المراسلات والمكاتيب تكشف لنا استمرار هندسات الحكم وأنماطه “مغايرة”، والتي تتغير دلالاتها حسب السياق…
رسائل برنامجاتية لضبط إيقاع الحكم
تشهد كل كتابات القرن الـ19 أن هذه الإصلاحات، المصنفة “غير مكتملة” أو ” غير تامة” أو المستحيلة من طرف مؤرخي الدولة الوطنية هي تتحقق أساسا تبعا لمنطق إمبراطوري.. وحتى ولو كانت هناك حروب وهزائم، فإن المراسلات والمكاتيب تكشف لنا استمرار هندسات الحكم وأنماطه “مغايرة”، والتي تتغير دلالاتها حسب السياق..
تميز هذا السياق بالتهديد القادم من السواحل الجنوبية (شهران بعد هذه الرسالة كتب السلطان إلى محمد برغاش، وزير البحرية المستقر بطنجة، مثيرا المفاوضات مع الإسبانيين، الذين كانوا يريدون فتح ميناء في سوس وفيها حديث عن حَرْكة سوس والمهمة الخاصة بأساكا وهو ما يبرهن على أن ضغوطات الإسبانيين كانت جد قوية )، وهذا التهديد كان بمقدوره أن يضع موضع خطر القواعد التجارية للنظام الذي كرس احتكاره ابتداء من القرة 18 بعد بناء مدينة الصويرة، ولم يكن واردا مطلقا لدى النخبة في تلك الفترة تصور إمكانية فقدان السيادة أو الخضوع لاستعمار، ووحدها كانت موضوع معادلة المصالح التجارية، ونزاعات الاستقلال الذاتي أو التمرد المعبر عنها من طرف ساكنة التخوم، كما رأينا، كانت من أجل المفاوضات، ولم تكن تخطر في البال، في أي لحظة من اللحظات، فكرة الانفصال أو الاستقلال، سواء في سوس أو في الصحراء، سواء من طرف حسين تازروالت أو لدى بيروك بمنطقة واد نون أو لدى الـ«تكنا» ..
أهداف الحرْكتين في 1882 و1886، اللتين تم تنظيمهما بعد عشرة سنوات بعد بداية حكم الحسن الأول، لا تشهدان على تحول في أنماط الحكم، وقد تم شرحهما بإسهاب في بريد للسلطان وجهه إلى الجميع ( ونجد نفس الرسالة موجهة إلى قائد الرباط عبد السلام السوسي مؤرخة بشهر شعبان مقابل 17 يوليوز 1882. وهي من حيث التفاصيل تختلف شكلا عن الرسالة التي نشرها الناصري ، وقد كانت تتكلم عن نفس التيمات ونفس المعلومات، حيث نجد فيها فقرات” مستنسخة نسخ لصق” وفقرات مكتوبة بطريقة مختلفة مثيرة الدليل على قدرة التكيف مع سياقات وموازين قوى مختلفة خاصة بالدولة الإمبراطورية)، وهذه الرسالة اتخذت شكل تقرير عن مهمة، ولا يتعلق الأمر هنا بالرسالة الوحيدة التي تملك هذه الخصائص. حيث أن سلاطين المغرب اعتادوا ضبط إيقاع حكمهم بواسطة رسائل برنامجاتية على غرار مولاي سليمان ومحمد بن عبد لله ومحمد بن عبد الرحمان والحسن الأول.
علاوة على رسالة هذا الأخير، التي تم عرضها أعلاه، تم توجيه رسالة أكثر رسمية إلى العالم الإسلامي بمناسبة السنة الهجرية الجديدة، كما سيفعل الحسن الثاني بعد مرور قرن من الزمن في 1979( الرسالة موجودة على موقع وزارة الشؤون الإسلامية ).
والكلام، المعبر عنه بشكل نظامي بلغة كاتب مخزني، متعارف عليه ورسمي يستشف منه جوانب تهم التوعية وقتها، كما يشرعن في الوقت نفسه الأسس الداعمة والقانونية للسلطة.(هكذا نجد أنه حول منطوق يمكنه أن يوحي بالتحكم والعنف مسنود بالقوة يتسرب دوما تذكير بالآيات أو السنة النبوية التي تؤسس وتشرعن الفعل). ولا يمكن والحالة هاته أن نتحدث عن “التحديد المجالي” للسيادة الإمبراطورية ولا عن مجرد سلطة رمزية ..( وقد عبر عبد لله العروي عن ذلك بصورة بلاغية إذ بالنسبة له ” المخزن شبح، بيد أنه شبح يشبه والد هاملت يتحكم في حركات الأحياء”) .
في الجزء الأول من رسالة 1882 يبدأ السلطان بوضع الطاقم المرافق له وجيوشه كي يحدد وظيفتهما الرئيسية: خلق الرهبة، والصدمة والذهول لتفادي استعمال العنف قدر الممكن. والحملة بذلك ليست “ضربة عنف”، بل هي ضربة” رجل يضع ثقته في مولاه”. وبعدها يقدم الحسن الأول وجهة نظره حول المجال الترابي الذي سيدخله ـ سوس، ويحدد الطبيعة التي تربطه بهذه “البلاد” باستعمال بلاغة التشبيه ” المَطيَّة المنقادة”.. ثم إن الرسالة تصف، بطريقة بلاغية، حكم اللحظة، والتي تلخص في إعادة النظام بعد ستين سنة من الغياب .. واستعادة النظام هاته مرت عبر استقبال وفود للوقوف على خضوعها، والشروط التي لا يمكن للسلطان أن يتراجع عنها…
استراتيجية إمبراطورية للإبهار بإتقان التنظيم
استعادة النظام مرت عبر استقبال وفود للوقوف على خضوعها، والشروط التي لا يمكن للسلطان أن يتراجع عنها… في حين أن استعمال كلمات العفو والمصالحة والأمان، مقرونة بخشية لله (ومن يرضي عنه لله) تحيل على الصعوبات التي صادفها. كما أنها تمر عبر تعيينات القضاة وإرجاع الامتيازات إلى الأعيان ـ الشرفاء ورجال الدين (والاعتراف بالزعماء الذين اختاروهم من بينهم. ويلح السلطان على طريقة تصريف ذلك بالجمع بين السلطة والسياسة ـ باعتبارها هنا مفاوضات ) وتبادل العطايا، عطية القبائل على شكل هدايا وعطية السلطان على وجه الخصوص على “شكل مراعي في حياض المخزن الشريف “، والهدف من ذلك هو أن يصبح هؤلاء الوسطاء وقد تشبعوا المخزنية كما ترتبط الروح بالجسد” المخزنية هنا (تمخزانت بالنطق الإمازيغي)، هي خليط من المهارة ومن فن الوجود والانخراط في إيديولوجيا الدولة، وأعلن السلطان أن هذه الأهداف قد تحققت، وأنه كان سيكون راضيا ولو على “عُشُرها”.
أما الجزء الثاني من الرسالة فإنه أكثر إثارة للاهتمام، حيث إن السلطان يحدد فيه “الهدف الحقيقي”، للحركة، وهو “حماية المسلمين والدفاع عن بلادهم ووجودهم وممتلكاتهم ضد أطماع من ينظرون إليهم بعين الحسد”، وللوصول إلى هذا الهدف كان لا بد من بناء ميناء في «أساكا» و”تعبئة قبائل التكنا» وايت باعمران” لهذا الغرض، وتصف الرسالة طرق وأساليب هذه التعبئة وتلح على الاحترام الذي يكنه المخزن لهذه الساكنة ولأعيانها.. وعليه فالأمر لا يتعلق بغزو بل بلقاء، كما أن مهمة استطلاع الأماكن التي سيتم فيها بناء الميناء مستقبلا، والتي لم يشارك فيها السلطان شخصيا، تعرض بدقة، وقد تطلق أيادي القبائل لفعل ذلك، في حين تشير الرسالة إلى أن السلطان سيعين في تيزنيت قائدا من القصر” مختارا من بين قواد الكيش الأثرياء والذين يملكون حسن التقدير مع تكليفه بمهمة تقديم مساعدته إلى كل العمال في سوس من وادي اولغاس إلى تخوم وادي نون وكلميم، ويكون على هؤلاء العمال أن يتفقوا معه على القضايا المهمة التي قد تطرأ، لا سيما عندما يبتعد المخزن عن هاته المناطق”.
وهذه الرسالة بالرغم من أنها رسمية ومكتوبة بلغة مشفرة ومقننة تشي بعديد من مبادئ الحكم التي تسلط الضوء على أنماط الحكم الإمبراطوري. وأول ما يثير انتباهنا هو تسجيل ممارسة السلطة في منطق الامتداد والاستمرارية، بما أنه تولى فيها منصب خليفة السلطان فإن منطقة سوس مألوفة لديه، ولا نسجل أي قطيعة مع حكم والده بخصوص طرق الحكم، سواء في الشكل أو في المضمون، كان يمكن للرسالة أن تكتب من طرف سابقه! وإذا كان السلطان قد عاد للاستقرار. في المنطقة، فذلك لأن الإنجليز والإسبانيين أصبحوا يمارسون ضغوطا محددة على السيادة”الوطنية” في معناها الإمبراطوري، أي باعتبارها القدرة على تفادي سقوط منطقة ما مهما كانت تحت إدارة الأجانب.. ( بخصوص فكرة الوطنية الإمبراطورية والتصور الإمبراطوري للوطن، انظر المقدمة في الجزء الثاني. وكتابات قليلة اشتغلت على هذا البعد. ..).
الرسالة تعطي أيضا نظرة عن معنى السياسة في الإمبراطورية الشريفة. وهكذا يعبر السلطان بشكل مختلف حسب بعد المناطق أو قربها من المركز، علما أن المسافة ليست مكانية بل سياسية.
من المحقق أنه في مجموع التراب الإمبراطوري يعين السلطان القضاة الذين يصدرون القانون الاسلامي ويمنع أن يحتفظ بالامتيازات ويخلق وضعا اعتبارية لهذا أو ذاك، ولكنه، إذا كان في المناطق القريبة يعين أعوان السلطة والأشخاص الذين يعوضونه في المناطق الحدودية فإنه يكتفي في المناطق النائية بالاعتراف بالسلطات المحلية وتعيين الزعماء من بين ساكنتها. وهي سياسة التقليص من الكلفة، قائمة على مبدأين كبيرين يتقاطعان بشكل واسع: استعمال الوسائط أو رمي مصاريف الحكم على الآخرين سواء كانوا أفرادا أقوياء، أو مجموعات ذات وضع اعتباري أو ساكنة. ثم.. التوفير (التقشف في النفقات). وفي داخل الإدارة نفسها، يقوم تقليل الكلفة قبل كل شيء على ما نسميه “اجعله يفعل (خليه يدير)”، والتكفل بالدولة من طرف الأفراد أو المجموعات لا تنتمي لسلطة الدولة، وليست في المقابل سياسة للتفويض بمعناه الصحيح، بل هي ممارسة” مضمَّنة” تشكل جزءا من المتن الأخلاقي المحلي بأفكاره المتعلقة بالكرم وحسن الاستقبال والضيافة.. فتم تطبيع وجودها.
وعلى عكس ما يتم احيانا النظر اليه باعتباره أحد خاصيات نظام الدولة الابوية، (الباتريمونيالية)، فإن الحكم لم يكن خاضعا للتحكم التعسفي. ومن المحقق أن هذا الاخير كان موجودا، غير أن همَّ المشروعية كان حاضرا دوما تماما كما هو حال الاشتغال بالتواجد ضمن عملية لعقلنة السلطة. وبهذا المعنى فإن الاحالة المستمرة والثابتة على لله والأسس الإسلامية لسلطة مسنودة بالجيش يجب أن يُنظر اليها وفهمها كاستراتيجية حكومية ترمي الى الإبهار بإتقان التنظيم.