صحافة البحث

صيدلية الأفكار (11).. العصافير لا تغرد لأجلنا

- الإعلانات -

لا تغرد العصافير حبا في جمال أعيننا وآذنينا. إنها تغرد لأجل رسم حدودها والإعلام بحضورها أو دعوة ذكورها لإناثها أو إناثها لذكورها… لكن يظل الاعتقاد راسخا أن العصافير تغرد لأجلنا والأزهار تتفتح لأجلنا .. اعتقاد يحمله الإنسان منذ قرون عديدة مبني على فكرة كونه سيد الطبيعة. إنه الكائن العاقل الوحيد والكائن المتكلم الوحيد و الكائن المفكر الوحيد في مجموع الموجودات الطبيعة.  هكذا عاش الإنسان منذ بدأ اليونان إرساء التفكير في ماهيته ككائن عاقل، و استمر الأمر إلى حدود عصر الأنوار الذي رفع من قيمة الإنسان على جميع المستويات. لقد جعلت فكرة سيادة الإنسان على الطبيعة من الفعل الإنساني تجاه الطبيعة فعل قهر لجبورتها وعمى طبيعتها، و فعل استنزاف دائم لقواها. قهر الطبيعة وترويضها وإخضاعها للرغبات و الحاجيات الإنسانية ظلت الهدف الأكبر للإختراعات العلمية و النزوات الاقتصادية والنجاحات السياسية.

لكن فرحة السيادة ليست خالدة. سيتعرض الإنسان السيد لصدمة كبرى حينما سيكتشف أن وجوده في الطبيعة ليس وجود سيادة ولكن وجود تضمن. ليست الطبيعة امتدادا أو وجودا خاما أو منبسطا غير منظم، بل عكس هذا إنها نظام متسلسل في صيغة نسقية، و كل ضرر يلحق بعنصر فيها تتداعى له العناصر الأخرى. هذا النظام المتسلسل والمنظم والمعقد لا يوجد الإنسان خارجه، بل إنه حلقة صغيرة من حلقاته. ذاك هو أهم اكتشافات القرن السابق  غير المسبوقة والذي تم تقعيده في علم خاص هو “علم البيئة” écologie وموضوعه العام هو ” النسق البيئي” éco-systéme. سيقلب هذا الاكتشاف علاقة الإنسان بالطبيعة رأسا على عقب. لقد أصبح الإنسان عنصرا حيا  ضمن نسق  بيئي متشابك من العناصر الحية الأخرى، و وجوده أصبح رهينا بوجود هته العناصر، مثلما أن جودة وأمن وجوده أصبحتا رهينتين بجودة وأمن و جودها. حقيقة علمية صادمة. حرم الإنسان من وهمه القديم الماثل في كونه هو من يهب الحياة للطبيعة  عبر أنسنتها وتذويب توحشها ، مثلما سيحرم من وضعه ككائن تدين له باقي الكائنات بالاستمرارية في الحياة، و معها ككائن سيد مالك للعقل والفكر. وسيتحول إلى كائن مدرج في أعلى هرم سلم المخاطر. فهته الأخيرة لم تعد تخص بلد دون الآخر، ولا تعتمد في من تصيب أو لا تصيب معايير التقدم التكنولوجي أو الإقتصادي..  ومعايير القوة والضعف، بل إنها تخرج من البحر أو تنزل من السماء أو تحصل في البر بعنف لا يمكن صد خسائره المادية والبشرية. مثلما لم تعد، أي المخاطر، قطرية أو محلية، بل كوكبية planétaire . فكل ضرر يلحق الغابات، أو يفضي إلى انقراض كائنات حية أو حشرات صغيرة أويلوث الهواء أو يميت خصوبة التربة… في قطر ما تكون لواحقه ممتدة في الزمن لتشمل الحياة في الكوكب ككل. نتيجة كل ذلك و نتيجة اتساع الفعل المدني المشتغل على موضوعة البيئة في العالم كله، و نتيجة الدلائل التي أصبحت تقدمها الطبيعة بتواتر سريع (زلازل و حرائق و فياضانات و تصحر و جفاف وتلوث وارتفاع درجات الحرارة وندرة المياه …) أصبح الكائن الذي خلعت سيادته يحس و يدرك أن وجوده في خطر ، و أصبح من انشغالاته الحالية البحث عن كوكب آخر يأويه. إن العصافير تغرد الآن لا لتثبت فقط حضورها و حرمة إقامتها.. بل لتقول لنا إننا سائرون جميعا، و قبل الأوان، إلى الجحيم .