صحافة البحث

صيدلية الأفكار (12).. القارئ الساذج

- الإعلانات -

في كتابه العميق والممتع “شاعرية حلم اليقظة” la poétique de la rêverie، يوضح غاستون باشلار أنماط الاستعمال الجيد والسيئ للرموز. ففي مجال العلوم الوضعية يحظر الرمز ويُبعد من دون رحمة. و في مجال  التحليل النفسي الكلاسيكي (مجال الحلم و العصاب) يعتبر الرمز عرضا من الأعراض ليس إلا. في المجالين معا يكون حضور الرمز مشبوها ومطاردا.  لكن حسب باشلار هنالك مجال ثالث يخص الإنسانية الكامنة فينا: إنه مجال الكلام الإنساني، مجال اللغة المتولدة والمتدفقة فينا ككائنات إنسانية، لسانا وفكرا في الآن ذاته.  في هته اللغة الشعرية تحصل المناظرة الإنسانية بين ما هو موضوعي  وواضح وبين ما هو بيولوجي غرائزي  مظلم. إن لغة القصيدة، حسب باشلار، تكشف “اللاأنا le non-moi الخاص بي  وليس أناي. وبذلك تكون نفس اللغة بعيدة أن تكون غارقة في الموضوعية الفارغة، أو الذاتية اللزجة والدبقة. يتصرف الانسان تجاه العالم بكيفيتين عريضتين. فلأجل تحويل العالم يتصرف الإنسان عبر العلم الموضوعي، وفي الأمر احتقارهادئ للطبيعة، أو يتصرف عبر جعل الشعر ذاتيا، و في الأمر إعادة بناء للعالم، حسب نموذج السعادة الإنسانية المأمولة، في صيغة أساطير وقصائد و ديانات.

على عكس علم الاجتماع والتحليل النفسي اللذان وجها أعين بحوثهما نحو اللاوعي، إما عبر الكشف عن الأعراض الحلمية، أو عبر البحث في الأساطير، سيوجه باشلار بحثه نحو “ما فوق –الوعي الشعري” الذي ينكشف في الكلمات والاستعارات، وكذا نحو نظام التعبير الأكثر غموضا، و الأقل بلاغة من الشعر، والذي يبدعه حلم اليقظة، حلم يقظة كلمات قارئ القصيدة. تفرض الظاهراتية (الفينومينولوجيا) حسب باشلار ذاتها في هذا السياق. ففي مجال استكشاف عالم الخيال والتواصل الرمزي، تسمح بقوة بإرساء نظرة جديدة تعيد فحص الصور المحبوبة بكل أمانة. سبب ذلك راجع إلى كون المنهج الفينومينولوجي  يعتمد على إبراز فضيلة الصور وأصلها وكذا الإمساك بجوهر أصالتها، ومن ثم الإفادة من الإنتاجية النفسية العظيمة التي هي إنتاجية الخيال. يعلق صاحب كتاب ” البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل “، جيلبير دوران قائلا بان ظاهرية الخيال عند غاستون باشلار هي “مدرسة السذاجة ” التي تسمح بقطاف الرمز بلحمه وعظمه من وراء كل عقبات التعهد الذاتي للشاعر أو للقارئ لأننا “لا نقرأ الشعر ونحن نفكر بشيء” آخر. منذ ذاك ظل القارئ الساذج، هذا الظاهراتي دون علمه، مكان الصدى الشعري. مكان هو حوض خصب لأن الصورة بذار وهي تجعلنا نلد ما نراه.

 يوجد الحلم تحت الوعي، لكن حلم اليقظة المبدع يوجد فوق الوعي، والشعور الذي يطابقه  يكون مبدعا، بحكم حيويته الخيالية. إن الشعور الحالم هو حلم يقظة منظوم شعرا. وهو عناق صور، لذا تجد القصيدة، حسب باشلار مسكنها في صدر القارئ الساذج.