سفينة الحمقى، هو العنوان الذي منحه ميشال فوكو للفصل الأول من كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”. وضمنه يعرج بدء على البنيات السفلى التي ستؤطر علاقة الثقافة الغربية بالجنون و المجانين. بنية سيؤثثها أولا حدث انتشار الجذام في أوروبا واختفائه. وبعده حلول الأمراض التناسلية محل الجذام. لقد انتشرت هته الأمراض فجأة في القرن الخامس عشر كما لو أنها تفعل ذلك بحكم الحق الوراثي. استطاعت الأمراض التناسلية، تحت تأثير عالم الحجز كما تم في القرن السابع عشر، أن تنفصل عن سياقها الطبي لكي تصبح جزءا من عالم الجنون وضمن فضاء أخلاقي للإقصاء. وفي الواقع لا يجب البحث عن الميراث الحقيقي للجذام في هذه الواقعة، بل يجب البحث عنه في ظاهرة أشد تعقيدا لم يكتشفها الطب إلا بعد جهد جهيد.يتعلق الأمر بظاهرة الجنون .اكتشاف الجنون مع عصر النهضة، سيرافقه ظهور موضوع جديد في متخيل عصر النهضة. يتعلق الأمر بسفينة المجانين. سفينة غريبة جانحة تنساب في الأنهار الهادئة. سفينة المجانين أو الحمقى لفها خيال كبير ، لكنها سفينة لها وجود حقيقي. فالسفن التي كانت تنقل حمولتها الجنونية من مدينة إلى أخرى وجدت حقا.
ذاك ما يفسر الحمولة الدلالية القوية لإبحار المجانين. فالإبحار يسلم الإنسان إلى قدر غير محدد، كل إنسان يسلم نفسه إلى قدره. وكل رحيل هو بالقوة آخر رحلة. ففي اتجاه العالم الآخر، يسير المجنون على ظهر زورق أحمق، ومن العالم الآخر يأتي عندما يحط الرحال. إن إبحار المجنون هذا، هو في الوقت ذاته تمييز صارم و انتقال مطلق. إنه لا يقوم، بمعنى من المعاني، سوى بتطوير الوضعية الاستهلالية للمجنون، ضمن جغرافية شبه واقعية و شبه متخيلة، عند إنسان القرون الوسطى. إنها وضعية رمزية تحققت من خلال الامتياز الذي يحظى به المجنون باعتباره محجوزا على أبواب المدينة: إقصاؤه هو الذي يقوده إلى الحجز. فإذا كان لا يستطيع ولا يريد سوى سجن آخر غير العتبة ذاتها، فإنه يبقى في حدود فضاء المرور. إنه موضوع داخل الخارج والعكس صحيح. إنها وضعية بالغة الرمزية وستظل هكذا إلى يومنا هذا، إذا كان بإمكاننا الاعتراف أن ما كان يشكل قديما قلعة مرثية للنظام، قد تحول الآن إلى صرح لضميرنا. وقد لعب الإبحار والماء هذا الدور . فالمجنون المحتجز داخل مركب لا يستطيع فكاكا منه، قد سلم أمره لنهر ذي الأذرع المتعددة، و إلى الماء ذي السبل المتعددة، إنه يسلم نفسه غلى عالم اللايقين الرهيب الموجود خارج كل شيء. إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حرية والأكثر انفتاحا: إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية. إنه بؤرة المرور بامتياز، أي أسير العبور. والأرض التي سيحط فيها تجهل عنه كل شيء، تماما كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت. فلا حقيقة له ولا وطن له غلا في ذلك الامتداد الخصب بين البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها. فهل يشكل هذا الطقس، من خلال هذه القيم، أصل ذاك الترابط المخيالي الذي يمكن تتبعه في الثقافة الغربية كلها؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ هل هذا الترابط هو الذي استدعى طقس الرحيل ورسخه منذ زمن بعيد؟ هنالك شيء ثابت على الأقل: ترابط الماء والجنون في ذاكرة الإنسان الأوروبي.
ذاك هو رأي فوكو بالحرف في التعالق الغريب بين الماء والإبحار والجنون في الثقافة الغربية في زمنها الكلاسيكي، وذاك أيضا هو أسلوب فوكو الشاعري في تناوله للجنون، أسلوب بقدر ما ثمن تحفته الفكرية هته بقدر ما جر عليه انتقادات عدة، خصوصا من طرف الأكاديميين. فمؤلفه هذا هو أصلا أطروحة دكتوراه، و هو عمله الأول. لكن لم يفوت فوكو الفرصة، بل انتظر صدور عمله ” أركيولوجيا المعرفة”، ليصرخ في وجوههم: “لا تسألوني من أنا، و لا تقولوا لي أن أظل كما أنا: إنها أخلاق الحالة المدنية التي تنظم أوراق هويتنا. لتتركوننا أحرارا حينما يتعلق الأمر بالكتابة”.