صحافة البحث

صيدلية الأفكار (15).. نظام التفاهة، كل شيء تافه.. ما العمل؟

- الإعلانات -

” نظام التفاهة “، كتاب للكندي آلان دونو ، تتسع دائرة قرائه في الغرب يوما بعد يوم، وبعد ترجمته إلى العربية من طرف الكاتب والجامعي الكويتي مشاعل عبد العزيز الهاجري (حسب ما ورد في تقديمه للمؤلف، نجد تارة الحديث عن نفسه بصيغة المؤنث وتارة بصيغة المذكر . مترجم أم مترجمة ؟) بشكل لائق وكاف وشاف، انتشرت النسخة العربية بشكل لا يتصور في المغارب و المشارق، و ملأت صورة الغلاف مواقع التواصل الاجتماعي . الأمر طبيعي، فموضوع الكتاب هو نظام التفاهة، وليس من العسير أن يجد فيه كل منا نفسه. إننا نحيا التفاهة و نتعايش مع التفاهة و نستهلك التفاهة … كتاب إذن يستحق القراءة , على الرغم من أن أمثلثه الداعمة كلها كندية و غربية ، لكن التشابهات سرعان ما تطفو على السطح أمام أعين القارئ . ميزة الكتاب أنه يتجاوز الحديث العادي عن التفاهة ليجعل منها نظاما له قواعد و فاعلون و آليات لوجيستيكية وإيديولولوجية ومالية ترسخه لدى الناس أبوا أم كرهوا . الكل ينخرط في لعبة تفاهة النظام بهذا القدر أو ذاك. لدرجة سيسجل معها الكاتب بأننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام، تدريجيا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.
يشرح الكتاب بأسلوب مميز و خاص مفاصل و مناطق سيادة نظام التفاهة لدرجة تجعلنا نقتنع بأن كل مناطق العيش مثقلة بالتفاهة. يغزو ويهيمن نظام التفاهة على أنماط التواصل السياسي واليومي والأكاديمي والإعلامي.. عبر آلية تشغيل السرد والقص والميثوس ولغة الخشب، عوض اللوغوس و الحجاج العقلي و التفكير النقدي… مثلما يهيمن على الجامعة و محاضراتها و أنشطتها و نظامها المؤسسي. كل شيء في الجامعات أصبح مرهونا بالتخصصات الضيقة والمتنافرة، وهته الأخيرة مرهونة بالممولين، وحدهم ممولو الأبحاث الجامعية ومختبراتها وأنشطتها من يحددون ما يجب الاهتمام به، أي ما هو منتج، و ما يجب إبعاده لأنه غير منتج . الجامعة أصبحت سوقا للتفاهة ، عوض أن تحافظ على هويتها العلمية و النقدية و الإبداعية. نظام التفاهة يهيمن على المثقفين و يحولهم إلى مثقفين صغار يهرولون وراء الجوائز والعطايا والظهور والملتقيات الرفيعة… و يتناسون مهماتهم الأصلية، مثلما يهيمن على الفنانين المهووسين بالمعارض والمبيعات على حساب فنية لوحاتهم.. و هو يهيمن على النقابات ورجال السياسة. كل العوالم مخترقة بنظام التفاهة من نظام الاقتصاد والمال إلى نظام الثقافة والفن والأدب والتعليم. وحدها لغة المال وأصحاب المال التافهين أصبحت لها السيادة والريادة في جميع مفاصل الحياة في ظل الدولة الحديثة.
تلكم بكامل العجالة صورة مصغرة عن الكتاب، و مجملها المفيد يمكن عنونته : “كل شيء تافه أو أصبح تافها “. ما يورده الكتاب على امتداد 365 صفحة، يصعب دحضه، وصاحبه ليس إنسانا تافها. إنه جامعي و فاعل ميداني ومناضل وناشط ثقيل الوزن في كندا. لقد سبق له أن أصدر كتابا ستة 2008م تحت عنوان : “كندا السوداء: النهب والإفساد والإجرام في إفريقيا”، أدى به إلى الملاحقة القضائية في بلد ديموقراطي.
لكن يبقى السؤال اللينيني العتيق صاحب فعالية : كل شيء تافه.. فما العمل ؟ لا نتغيى من طرح السؤال مطالبة المؤلف ببرنامج مرحلي أو استراتيجي أو اقتراحه. الأمر يتعدانا معا كباحثين. لكن ما يستوقفنا أمام هذا العمل والأعمال الشبيهة به، من حيث قوة الكشف والفضح و التعرية.. لكل الأنظمة المسيطرة على حياة وعقول الناس، هو أن كشف قوة نظام التفاهة، و قوة سيطرته و جبروت اختراقه للأفراد والجماعات والمؤسسات بقدر ما يعري وضعا فاسدا، بقدر ما يقوم بالدعاية لجبروته عن وعي أو غير وعي . هل يكفي الباحث أن يكشف و يعري و يفضح أنظمة السيطرة ، و هو يعتقد أنه يقوم بمهمات نقدية علمية نبيلة تجاه الناس و تجاه وطنه و تجاه التاريخ . ما يتناساه مؤلف جيد من هذا النوع ، و مؤلفات جيدة من نوع آخر هو أن علاقات السيطرة بجبروتها المرئي و غير المرئي ، تحتضن مقاومات ، و رفض، و مناهضة علنية، و مكتومة .ذاك ما نبه إليه ميشال فوكو في إحدى محاضراته بالكوليج دي فرانس قائلا : ” علينا التوجه نحو مناطق الرفض les points de non-accéptation.. مناطق المقاومات الصغرى، على اعتبار أن كل علاقة سيطرة و سلطة لا تخترق فقط بالسيطرة والسلطة، بل أيضا بالرفض والمقاومة. تلك زاوية نظر ميشال فوكو، زاوية النظر لأنظمة السلطة والسيطرة من خارج منطقها السلطوي وإبراز وإظهار أنماط مقاوماتها. نظرة تنزاح عن أسطرة جبروت كل نظام، وتفتح الباب أيضا لأصوات من يقاومنوها في السر والعلن . ذاك ما ينقص المؤلف، و ذاك أيضا ما ما تعززه مؤلفات الانثروبولوجي جيمس. س، سكوت، المُمتلئة بالأعمال الميدانية عن فنون الناس في خلق وإبداع مقاوماتهم المعلنة والمكتومة لعلاقات السيطرة. هذا ما يفترض على الباحث عمله جوابا على سؤال : ما العمل.