صحافة البحث

صيدلية الأفكار (18).. لا العنف أي عنف ؟

- الإعلانات -

لا للعنف، شعار كوني وإنساني، أصبح رمزا تندد به ومن خلاله الجماعات والمؤسسات و الفاعلون المدنيون والحقوقيون بأشكال العنف الذي يتعرض له الأفراد ضمن العلاقات الاجتماعية، أو تتعرض له الشعوب من طرف دولها و أجهزتها الأمنية، أو من طرف مستعمريها. العنف فعل اجتماعي وسياسي منبوذ لأنه يدمر كل أواصر و قواعد العيش المشترك. تتعرض النساء للعنف أكثر من الذكور، ويتعرض الأطفال للعنف أكثر من الشباب و الكهول. العنف سواء كان نفسيا أو رمزيا أو جسديا، فرديا أو جماعيا، مدمر لحيوات الناس، لذا أصبحت الإنسانية على وعي بأن رفضه واجب و التشهير به فرض عين و معاقبته إلزام قانوني. يغذي العنف البنيوي (بطالة، غلاء معيشة، كتم الحريات، فساد، اقتصاد الريع، إقصاء وتهميش …) أحداث العنف الاجتماعي و يرفع من درجاتها الكمية والكيفية، مثلما يشكل بنيتها التحتية.
لا للعنف مطلب مشروع على جميع المستويات، لكن ما العنف المقصود؟ و هل كل العنف يجب نبذه؟ و هل يصح الحديث عن العنف بالمفرد؟ وهل يمكن للإنسانية أن تحيا من دون عنف؟ ليس العنف جوهرا خاصا بعينة من الأفراد دون غيرها، وليس جوهرا لثقافة دون غيرها، أو جوهرا لديانة دون غيرها. العنف ينشأ ويتكون وينمو ويتحول في سياقات نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية. لذلك من المفترض أن نتحدث عنه بصيغة الجمع و ليس المفرد des violences. في العنف، هنالك ما هو مدمر وقاتل، و في العنف أيضا ما هو مُنتج و خلاق. تنحر وتذبح أمة الإسلام سنويا الكبش –الحيوان. لا يخرج فعل الذبح و النحر عن سياق العنف، بل يمكن اعتباره أعنف أشكال العنف، لكن مع ذلك لا يمكن تصنيفه ضمن العنف المنبوذ و المدمر، بل و عكس ذلك إنه عنف منتج للحياة الجماعية والاجتماعية، و ضامن لتجددها. إنه عنف طقوسي، و مثله مثل كل أشكال العنف الطقوسي يؤدي مهمة احتفال الجماعة بحياتها ولحمتها الاجتماعية، و تذكير أفرادها بأن ضرورة هذا النوع من العنف آتية ونابعة من كونه عنفا يوقف العنف، عنفا ضد العنف. ينبني نحر أضحية العيد الكبير لدى أمة المسلمين على القصة الإبراهيمية التي اعتبرها كثير من الأنثربولجيين و المحللين النفسيين، نموذجا ثقافيا لإيقاف العنف، سواء كان هذا العنف عنف اقتتال الإخوة، أو عنف قتل الإبن.. إنها الحل العنيف (ذبح الحيوان ) لإيقاف العنف المدمر (ذبح الإنسان). لذلك يعتبر العنف الطقوسي عنفا منتجا وضروريا لحياة المجتمعات خارج دائرة العنف القاتل. في الحياة اليومية يتعايش العنف المدمر مع العنف المنتج و الخلاق. يستوطن العنف علاقات الحب، و من دونه لا يمكن للحب كعلاقة اجتماعية متفردة أن يكون و يدوم و يستمر. “ضربة الصعقة المباغتة le coup de foudre” هي إحدى أشكال بلاغة عنف الحب، مثلما يستوطن الجنس والجماع والقبلة، فلا لذة في الجماع إن لم يكن ملفوفا بعنف الحب وعنف الجنس. عناق الصداقة عنف، و عناق المحبة عنف، المصافحة الحميمية عنف … إنه عنف، لكنه قاتل و مدمر لعنف البرود واللامبالاة القاتليتن لحرارة العلاقات الإنسانية و دفئها و حميميتها.
سؤال العنف الأكبر، ضمن العلاقات الإنسانية وأنماط العيش المشترك، سؤال كمية question de dose. حينما تكبر الكمية يتوحش و يقتل، وحينما تصغر الكمية تدمر وتنهك وترهق و تقلق بؤر الوجود الإنساني الأكثر عطاء و انفتاحا. لذلك يكون سؤال الكمية سؤال عدل، سؤال ميزان، سؤال محكمة المشاعر والعواطف الإنسانية المحاطة اجتماعيا بإكراهات العنف البنيوي الأكثر تدميرا.