صحافة البحث

صيدلية الأفكار (19).. واقع وآفاق لعنة ما بعد الحداثة

- الإعلانات -

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي ” للمغاربة ” . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

” ….. واقع و آفاق”، جملة لا يمكن أن ينساها الجيل الذي كان مهتما أو منخرطا في الممارسة الثقافية والسياسية لحظة النصف الأول من عقد الثمانينات. فجل اللقاءات الثقافية إن لم أقل كلها ظلت تتم تحت ظل جملة واقع و آفاق، بل إن مجلات فكرية و ثقافية فضلت عنونة ذاتها بـ”آفاق” جملة بسيطة وعنوان فسيح كان يسمح للمنظمين وللمتدخلين برحابة القول والتناظر في شؤون البلد المتوترة آنذاك. يكفي أن تخبر ضيوفك بأن شعار وعنوان اللقاء هو … واقع و آفاق، كي ينتظر الحاضرون أن المناقشات ستكون ساخنة و مضيافة ، فالأمر يتعلق بتشخيص الواقع واستشراف المآلات المجتمعية المستقبلية.

لقد اغتنت الساحة الثقافية والفكرية بفضل هته الجملة –الشعار ، على الرغم من بساطتها البادية. جملة استوطنت انشغالات النخب جميعها، لأن الهاجس الذي ظل متحكما هو البحث عن عناوين مطابقة تضيء مسارات و مصير المجتمع المغربي. اختفت جملة واقع وآفاق وكتم صوتها لأسباب عديدة، و أدارت النخب الجديدة وجهها باتجاهات أخرى. أصبحت الجملة اليانعة محط سخريات سوداء، وانزوت في الذاكرة. لم يعد سؤال الآفاق ملائما للخطابات والاهتمامات الجديدة. مثلما لم تعد أسئلة المجتمع المغربي الكبرى والحارقة محط انشغال نخب البلد الثقافية والسياسية.

انقطع ما ابتدأته النخب الفكرية السابقة من تساؤلات و لقاءات حول طبيعة المجتمع المغربي و سمات هويته الاجتماعية والتاريخية، وآفاقه المستقبلية. ارتمى الكثيرون في ملئ الساحة الثقافية و الفكرية بالاكتشاف العظيم الذي يبعد الكليات و الأسئلة الكبرى و قضايا المجتمع الحياتية، ويقدم عوضها الجزئيات و الهوامش. ستبعد الآفاق و تحل محلها دعاوى الما بعديات التي ليس لها بعديات. يتعلق الأمر بما بعد الحداثة و ما تفتي به في مجال الفكر والفن و الشعر و الأدب و السياسة و التاريخ والإيديولوجيا …. كل الكليات، من تاريخ و نظريات وايديولوجيات، أصبحت ميتافيزيقا ملعونة. و كل التشظيات والإنزياحات والظلال والهوامش … أصبحت طواطم الفكر و التفكير و الذوق و التنظير. وكل الما بعديات، من ما بعد الإيديولوجيات وما بعد التاريخ وما بعد الإنسان وما بعد الأديان .. أصبحت شعارات محررة من كل انخراط وممارسة ومسؤولية مدنية و سياسة و تاريخية. انخرط الكثيرون بكل الفرح الساذج والوعي السعيد في الخطابات الجنائزية لما بعد الحداثة، خطاب النهايات، نهايات المراكز والتاريخ و الإيديولوجيا والنظريات التفسيرية الكبرى.

كل الأشياء و الأفكار المحمولة في أجساد كبرى عليها أن توضع في “سفينة الحمقى” القدامى ويرمى بها في أيدى الأنهار غير الهادئة. فالمهمات الفكرية الكبرى الآن في ظل “ما بعد الحداثة” هي الهدم و التفكيك والتقويض والتشكيك. حول الاستهلاك المتهافت على الفتح الفكري العظيم مريدي المابعديات إلى حاملي مطارق و مناجل جدد دون وعيهم بذلك. (تعويض مطرقة لينين بمطرقة نيتشه). مهمة المطرقة هي الهدم والتقويض والأمر محمود فكريا، لكن على المطرقة أن تكون طارقة أيضا لأبواب المستقبل والمصير ، على جميع المستويات.

لقد أتعبت المطرقة الطارق، فبعد سنوات من هدم الكليات الكبرى دون استشراف أية بدائل، هاهي الكليات تنبعث من تحت صوت المطرقة. “عودة للأديان”، عودة للمقدس في أشكاله اليومية المهادنة وأشكاله السياسية الراديكالية. “عودة للإيديولوجيات”، في أشكالها الاجتماعية البيضاء و أشكالها العنصرية السوداء . “عودة للتاريخ” في أشكاله التاريخية وأشكاله الهوياتية والمحلية العنيفة. “عودة لخطاب الهويات” في أشكالها السوية و أشكالها المرضية. إنها لعنة “ما بعد الحداثة” و لعنة المابعديات بكل طقوسها الجنائزية.