صحافة البحث

صيدلية الأفكار (20).. دارت نساء يقاومن الرأسمال المتوحش

- الإعلانات -

“دارت” معاملة اجتماعية –اقتصادية أبدعتها النساء. نساء يجتمعن ويُقررن إدارة تقنية اقتصادية نعتت بدارت. تمنح كل النسوة قسطا متساويا من المال، بسيط أو متوسط، حسب أوضاعهن الاجتماعية، و تبدأ اللعبة الجدية. تجميع المال يرفقه الاتفاق والتعاقد على سلم التسليم. من ستستلم الحصة كاملة في البداية، ومن ستليها إلى أن تغلق الدائرة. مفاوضات تنتهي باتفاق أو عقد أخير لتبدأ حركة دوران النقود. لا يرتكز التعاقد على ما هو مكتوب، ففي الغالب تكون النسوة على صلة ببعضهن البعض، وفي حالة انضمام عضوة جديدة فإنها تتم تحت ظل ضمانة رمزية من طرف عضوة سابقة لها . “معاملة دارت” إسمها نابع من دائرية المجموعة ودوران الحصة المالية المجموعة. دائرية حامية من الدين وثقله والقرض وفوائده، وفي الآن نفسه مقوضة لأركان المعاملات الاقتصادية الرأسمالية المبنية على الربح والفائدة.

معاملة بسيطة و إبداع عملي بسيط ، انتشرت عدواه بين الرجال كذلك ، واستوطنت بلاغته في الإدارات العمومية . معاملة اقتصادية بسيطة لكن خطورتها على توحش و وحشية الرأسمال لا يدركها سوى خبراء و مستشارو مؤسسات القروض الصغرى و الكبرى . فكل اتساع في جغرافية “دارت” يعني فقدان زبناء جدد من جهة و ميلاد مناعة جديدة ضد غواية الإشهارات السامة لهته المؤسسات، والتي تنفق عليها هته المؤسسات ميزانيات محترمة .مواجهة مفتوحة و مكتومة بين اقتصاد اجتماعي صغير يبعد قيمة الربح و المنفعة ، و اقتصا د ضخم متوحش يرى في الكائن الإنساني عملة لمراكمة الربح . و لن يكون من باب التضخيم اعتبارها مقاومة نساء للرأسمال المتوحش . مقاومة تندرج ضمن مقاومات صغرى أخرى تؤرق خبراء السوق المالي المتوحش . ( إننا حينما نحمل بين أيدينا داخل المتاجر الممتازة المجهزة بكاميراتها الخفية ، منتوجا ونطلع على كل ماهو مكتوب عليه ، و نقلبه مرة و مرات ، ثم نرجعه إلى درجه لا نعرف أن خبراء شركة المنتوج يحملون صورنا الحية بكل حركاتها و يقومون بدراستها و تحليلها للكشف عن سر تردداتنا و كذا امتناعنا عن شرائه … ترددات و حذر يفزعان و يقلقان و يؤرقان شركات كبرى ) . مبدأ دائرية معاملة “دارت” يجعلها تنتمي لاقتصاد الهبة المضاد لاقتصاد السوق، للإقتصاد النبيل (حسب مارسيل ماوس وبورديو ) المضاد للاقتصاد الجشع.

في “بحثه حول الهبة” يرصد مارسيل ماوس اقتصاد الهبة، في أشكاله المتعددة . من بين هته الأشكال هنالك اقتصاد الكولا KULA . هته الأخيرة نوع من البوتلاش الضخم، تجري من خلاله تجارة كبيرة بين القبائل الواقعة في جزر تروبريان. تجارة من النوع النبيل لأنها ليست عمليات تبادل اقتصادي مبني على الربح أو المقايضة. مبدأها العام هو أن الطرف الذي يقدم الهدية اليوم لطرف ثان يكون هو متلقي الهدية في الغد، والعكس صحيح. ينشط هذا النوع من الاقتصاد ضمن حركة دائرية. فمن سيقدمون هدايا الأساور يتجهون من الغرب باتجاه الشرق، و من سيقدمون هدايا القلائد يتجهون من الشرق باتجاه الغرب. ولذلك يكون لقاؤهم رسما لدائرة، هي أساسا دائرة دوران الأشياء النفيسة التي يتم تداولها بين قبائل الجزيرة. يقول ماوس بأنه من الناحية المبدئية، هذا التداول الدائري للرموز والثروات لا يتوقف ولا ينقطع، فحركة العطاء الدائري تستمر، وكل من يحصل على عطية تكون بالنسبة له ملكية و حيازة، وديعة و كراء، شيء مباع ومشترى، وفي الوقت ذاته مودع و مفوض و مستأمن . هذا هو المركب الاقتصادي والقانوني والأخلاقي المميز جدا. الكولا إذن نظام دوران الثروة وليس احتكارها أو مراكمتها، و هي نموذج، إلى جانب البوتلاش، يقدمه ماوس على لسان المجتمعات العتيقة، للرأسمال المتوحش كي يعلم خبراؤه و ساسته أنهم يدمرون أسس العيش الإنساني. نظام الدائرة وهو نقطة تقاطع “دارت” مع “الكولا”، ومقاومة توحش وجشع الرأسمال هو غايتهما المكتومة. دوران “الثروة” الصغيرة جدا للنساء موطن صغير لمطلب اجتماعي كبير : إذا تحركت الثروة بشكل عمودي فإنها تصعد ولن يمسح لها بالنزول أبدا، و إذا لم تتحرك بشكل دائري فلن تنعم المجتمعات باقتصاد الرفاه.