يستعيد مارتن هايدغر في كتابه “ما الشيء” ، حادثة يونانية صغيرة وقعت في أثينا تعرض لها الفلكي طاليس (ليس أرسطو طاليس). فبينما كان طاليس يتجول في أثينا، ويمشي كعادته محدقا في السماء، سقط في حفرة، فضحكت منه خادمة طرسوس (أحد أسياد المدينة). ضحكة الخادمة شغلها هيدغر بوصفها ضحكة اليومي من العالم، ضحكة ممن يرمون بعقولهم في السماء ولا ينظرون إلى ما يوجد بالقرب منهم وتحت أقدامهم. ضحكة عبد الله العروي من هذا الصنف. ضحكة من الباحثين و العلماء الذين عوض أن يطلعوا على مؤلفاته المتواجدة في جل إن لم نقل في كل المكتبات المغربية والعربية، أي بالقرب منهم ومن أقدامهم، يفضلون الحديث عنه بما يجول في خواطرهم وعقولهم. ضحكة عبد الله العروي الأولى، في حدود علمي، و التي حكى عنها بنفسه في إحدى المناسبات تقول، أنه ذات يوم كان ماشيا في شارع محمد الخامس بالرباط، فأوقفه احد الأساتذة الجامعيين، من جامعة مغربية أخرى، وقدم له التحية، ثم قال له باللغة الدارجة “شحال هذي أسي عبد الله ما كتبتي لينا شي حاجة”. كان العروي، و حسب لسانه، قد أصدر قبل أسبوع أو أسبوعين مؤلفه “مفهوم العقل”، أجابه العروي “يبدو يا سيدي أنك شحال هذي ما قريتي”. ضحكة عبد الله العروي الثانية، حديثة و مكتومة، مبعثها ما كتبه عبد الله حمودي مؤخرا، و أصدره ضمن مؤلفه “ما قبل الحداثة”. يقول عبد الله حمودي بالحرف في الصفحة 11 : “إن الرجوع إلى (ما قبل الحداثة) كما حاولت في هذا الكتاب، ينبني على نظرية النقد المزدوج كما طورتها على أساس ما أتى به عبد الله العروي و عبد الكبير الخطيبي”. لنترك جانبا في هذا المقام الصغير حسرة المرحوم الخطيبي جانبا، و هو ينصت للجملة و هي تعلن أن صاحبها طور نظرية النقد المزدوج، و أن صاحب ومبدع النقد المزدوج ليس سوى مرجع داعم لهاته النظرية ؟؟؟ و لنركز على مدلول مساهمة عبد الله العروي في بلورة نظرية النقد المزدوج الجديدة لعبد الله حمودي. هل يمكن بأي حال من الأحوال، و كيفما كانت التأويلات و القراءات، أن يكون عبد الله العروي ، سندا ودعما ومرجعا لبلورة نظرية في النقد المزدوج، سواء كما بلورها عبد الكبير الخطيبي أو كما سيجترها عبد الله حمودي؟
أطروحة عبد الله العروي الكبرى، والمعروضة بكامل الدقة في مؤلفاته و محاضراته العمومية و الخاصة بطلبته، واضحة جدا، بسسب أن عبد الله العروي دقيق في عرضها، و صارم في بلورتها ومتابعة تفرعاتها و تشعباتها. لقد ظل عبد الله العروي، و لازال، صاحب اختيار فلسفي (الحداثة بدل التقليد)، فهل سيكون سندا لدعوى “ما قبل الحدثة برمزها العربي (البيروني) ؟ وصاحب اختيار نظري ( التاريخانية بوصفها ثبوتا في قوانيين التقدم التاريخي في اتجاهه من الماضي نحو المستقبل و إمكانية لاقتباس ثقافة و فكر الآخر بحكم وحدة الجنس البشري و فعالية المثقف والسياسي في إنجاز الطفرة و اقتصاد الزمن )، و صاحب اختيار منهجي ( العقلانية العلمية المعتمدة على التجربة و الاستقراء) و صاحب اختيار فكري (تعرية عوائق التحديث السياسي و المجتمعي). مشروع متكامل. اختيار الحداثة، حسب العروي، لا تجزيئ فيه ولا تقسيم فيه بين ما ينتمي لأسسها الفلسفية و القيمية و ما ينتمي إلى منتجاتها التقنية (عكس كل السلفيات ). والمجتمعات العربية لا يمكنها أن تقفز فوق الحداثة لأنها قدرها الذي لا فكاك منه. التحول نحو الحداثة يتطلب حضورها في العمق، أي على مستوى الدولة والمجتمع. مجتمع يبتعد في تعليمه وسلوكات أفراده عن المعتقدات الغيبية و التقليدية، و يقطع مع منح الأولوية للإسم على الفعل لغة و سلوكا. مجتمع يرفع كل ما يعيق تحرير الفرد من مختلف التبعيات السياسية والاجتماعية والعشائرية والفكرية وكل ما يعيق حرياته المدنية والسياسية في الواقع. اختيار الحداثة والقطع مع التقليد، حسب عبد الله العروي، هو اختيار الطريق الذي ليس من دونه بد : الطريق الذي سارت فيه المجتمعات الإنسانية. يقول العروي، سيتعرض هذا الاختبار لمقاومات كثيرة، لكن من دونه سنظل نقول كل شيء إلا ما يهم حاضرنا و مستقبلنا.
مشروع واضح لا ضبابية أو ترددات فيه. و سواء اختلفنا معه أو اتفقنا ، علينا من باب الأخلاق السامية بذل الجهد لتملكه كما هو معروض في ما كتبه صاحبه، وفيما حاضر لأجل بيانه و رفع سوء فهمه لدى البعض. وإلا ستهز كياننا ضحكته الثالثة.