“صنع بالصين” جملة إشهارية –اقتصادية تعرفها ساكنة المعمور، بحكم قوة واتساع انتشار المنتوجات الصينية. منتوجات الصين تتفاوت قيمتها وجودتها من مجتمع لآخر . في المجتمعات العربية الإفريقية عموم ، “صنع بالصين” تعني مباشرة انخفاض في الثمن مع ميزة شبهه الكبير بالمنتوج الأصلي مرتفع الثمن. موضوع يستحق لوحدة أكثر من قراءة و تأمل. لكن حينما ننتقل إلى المنتوج العلمي الصيني (علم الاجتماع بالتحديد ) كيف نقرأ “صنع بالصين” ؟ و ما الدروس العلمية التي تقدمها جملة “صنع بالصين” للسوسيولوجيا عامة والمغربية على وجه الخصوص ؟
لننصت :
يقول السوسيولوجي “سان ليبينغ” و هو أحد مؤسسي السوسيولوجيا الصينية : “عقد الثمانينيات، من القرن الماضي، كان عقد توطين السوسيولوجيا. حينها لم نكن نعرف ما هو موضوع البحث المشترك لهذا التخصص. لقد كانت مشكلات المجتمع الصيني هو ما يقلقنا. ففي حالة ما لم يتمكن السوسيولوجيين الصينيين من الإجابة عنها، فلن نتمكن من ولوج القرن الواحد العشرين . في هته الفترة كانت البحوث على قلتها رسمية بشكل كبير . مع عقد التسعينات، بدأت السوسيولوجيا الصينية تتطور، نتيجة ارتفاع درجات تفاعلها مع العالم الأكاديمي. لقد حصل تغير في الهوية. سابقا كان المثقف الصيني يقول : “على أن أهتم بهذا المجتمع”، أما الآن، فإني أمتلك معرفة، و أعترف بوجود جماعة علمية، أنا عضو فيها . منذ 1990م ، ستدخل السوسيولوجيا الصينية، مسار التخصص، و سيبرز جيل جديد من الباحثين تكون بعضهم بالصين، و البعض الآخر بالولايات المتحدة الأمريكية. ولم تعد مهمة السوسيولوجي هي حل مشكلات المجتمع الصيني، بل تأسيس تخصصات علمية ، بمعاييرها العلمية الخاصة. مع الانغماس في سيرورات التخصص هته، بدأنا نلاحظ منحى آخر، يثمثل في ضعف الوعي بالمشاكل الفعلية للمجتمع الصيني ، أو بصيغة أخرى، حدوث قطيعة. فالباحثون يجرون بحوثهم في المجتمع الصيني و يحملونها خارج الصين بدعوى البحث عن الحوار العلمي الدولي ، بعد أن يكونوا قد أثثوها بكل المفاهيم السوسيولوجية الغربية الموجودة في ساحة الموضة « و يضيف « غيو يوهويا « لقد أصبحت في هاته الفترة المفاهيم السوسيولوجية الغربية «موضة توضع في كل الصلصات « .
بناء على ذلك يضيف سان ليبينغ “كان ضروريا إثارة خطر الإنحراف الشكلي للسوسيولوجيا”، و الذي يضفي الشرعية، بفضل استعماله لمفاهيم سوسيويولوجية مجردة، على آراء الحس المشترك، و ثانيا لأنه يشغل مفاهيم تم إنتاجها و تجريبها في سياقات غربية، لتحديد السياقات الصينية.. يقول سان ليبينغ: “لدينا الآن مشكلات مع ميشيل فوكو و بيير بورديو . لقد ابتكروا مفاهيم تتلاءم مع بعض المشكلات ضمن سياقاتها، و في حالة ما أخذنا المفاهيم فقط، فإنها لن تكون مفيدة لنا في شيئ”.
إذن كيف يمكن الربط بين الطموحين، طموح مواجهة المشكلات الفعلية للمجتمع الصيني، و في الآن نفسه الحفاظ على الحوار العلمي مع النظريات السوسيولوجية المعاصرة ؟
يجمع السوسيولوجيين الصينيين، الحاضرين الآن في الساحة الدولية، والذين يشتغلون كجماعة في شعبة السوسيولوجيا بجامعة “كينغوا” بمدينة بكين ، على القاعدة المعرفية التالية : “وحدها معرفة ما يتفرد به المجتمع تفرض أدوات التحليل الملائمة وذات الصلاحية العلمية”. و بناء عليه، كان اشتغالهم أولا على ما يتفرد به مجتمعهم . المجتمع الصيني، حسب “سان ليبنغ و يووان شين” يتفرد عن باقي المجتمعات، سواء كانت غربية أو شرقية، بخاصيات ثلاث : مجتمع “المعجزة الاقتصادية”، و المقصود بها النجاح الخارق في اقتصاد السوق العالمي، و “المعجزة السياسية” ، ومقصودها كون هذا النجاح يتم ضمن نسق سياسي مغلق ، لم يسمح لقيم اقتصاد السوق ، من حرية و ديموقراطية و تنافس مفتوح، أن يعيشها الصينيون، والثالثة كون المجتمع الصيني ولج اقتصاد السوق و هو يضمن الاستمرارية بين ماضيه و حاضره .
إدراك التفرد المجتمعي، جعل سوسيوليجيي هته الشعبة، و الذين لا يتعدى عددهم العشرة، يصيغون إشكاليتهم السوسيولوجية الكبرى ، يتعلق الأمر بإشكالية “الإنتقال” من السوق الإشتراكي، إلى اقتصاد السوق المعولم المميزة للمجتمع الصيني، و ضمنها إشكالية “الحضارة الشيوعية” ، المتمايزة عن الإشكالية الفيبرية الخاصة بروح الرأسمالية.
حسب السوسيولوجي، شين يووان، يتعلق الأمر بمنح المجتمع الصيني “إشكالية عامة و شاملة” تسمح للباحثين الصيننين الجدد بدراسة “الأشجار لكن ضمن غابة يعرفون طبيعتها”. يقول : “يبحث السوسيولوجيين في الأسرة و المصنع، لكنهم لا يعرفون أن الأسرة و المصنع هي أنساق من إنتاج الحضارة الصينية. إنهم يقومون بأبحاث عبر الإستمارات و المقابلات ، لكنهم لا يملكون الوعي بهذا . مشكلتهم أنهم يرون الشجرة فقط وليس الغابة. إن أكبر خطإ ارتكبته السوسيولوجيا الصينية هي أنها لم تحدد موضوع بحوثها. كبار أعلام السوسيولوجيا، من ماركس وفيبر ودوركهايم، على الرغم من اختلاف مقارباتهم، كانوا يواجهون نفس السؤال والموضوع : إنه الرأسمالية. إن تحديد موضوع البحث الأكبر يمكننا من الإنطلاق من مواقع مختلفة، كالثقافة والتاريخ وشبكات التواصل الاجتماعي، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، والهجرة، وسيكون كل واحد منا مختلفا عن الآخر، لكن الشيء الواضح هو أن كل هاته الأبحاث عليها أن تدمج في حقل معرفة الإشكالية الكبرى والتي هي ما يتفرد به المجتمع الصيني ، بكل رهاناته و تحولاته.
ذاك هو درس السوسيولوجيا الصينية : على علماء الاجتماع أن يركزوا اهتماماتهم العلمية على ما يتفرد به مجتمعهم بكل رهاناتها و تحولاتها. درس بسيط لكنه أعمق من عمق البحر .
صيدلية الأفكار (24).. “MADE IN CHINA” السوسيولوجيا الصينية
باحث وأكاديمي مغربي من مواليد سنة 1962 بالدار البيضاء، حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الفسلفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.، وعلى دبلوم التخرج من مركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط.، وعلى الدكتوراه في علم الاجتماع.
المقال التالي