مقـدمـة
تميزت الأربعة عقود الأخيرة من تاريخ البشرية بانتشار العولمة النيوليبرالية لتكتسح ارجاء شاسعة من المعمور. وقد تم هذا الانتشار في بعده الاقتصادي على مسلمة مفادها ان التركيز على الاستقرار الماكرو-اقتصادي (خاصة من خلال التحكم في التضخم وخفض عجز الموازنة العامة)،ولبرلة (او تحرير) الاقتصاد من خلال تفعيل اليات السوق، وخصخصة الشركات (او المؤسسات) العمومية والمرافق العامة، وازاحة الحواجز امام تنقل السلع والخدمات والرساميل، من شانه ان يضع حدا للأنشطة الريعية، ويعزز المنافسة، ويحسن الفرص المتاحة للتصدير، ويساعد على تضييق الهوة بين الدخل الفردي في الدول الفقيرة مقارنة مع الدول الغنية. غير ان هذه الوعود لم تتحقق على ارض الواقع، بل صارت أوهاما (محمد سعيد السعدي،2022)، خاصة بالنسبة لتحسين معدل النمو وتقليص الفوارق بين (وداخل) البلدان. ويزداد الامر سوءا عندما يتعلق الامر بإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما هي متعارف عليها عالميا، لا سيما توفير الحق في الصحة للجميع.
تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على العلاقة بين العولمة النيوليبرالية وحقوق الانسان، مع التركيز على الحق في الصحة. وقد اعتمدنا في صياغتها على الأبحاث والدراسات الاكاديمية المتوفرة حول الموضوع كما وظفنا معطيات والاحصائيات التي توفرها المنظمات الدولية والإقليمية والوطنية. توضح الورقة الاثار السلبية للعولمة النيوليبرالية على الحقوق الاقتصادية، خاصة الحق في الصحة، وتبرز الميكانزمات التي تؤدي الى هذه النتائج، سنعرض في الفصل الأول من الدراسة لمفهوم العولمة النيوليبرالية ودور المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتحديد) في نشرها عالميا، خاصة بدول الجنوب التي تنعت بالنامية، حيث تعتمد هذه المؤسسات المشروطية لفرض برامج التقويم الهيكلي (او ما يسمى ب”الإصلاح الاقتصادي”) المتحورة حول ثلاثية لبرلة الاقتصاد (او التحرير الاقتصادي(-الخصخصة- والتقشف. وندلل على التأثير السلبي لهذه البرامج من خلال التركيز على الحق في الصحة. اما الفصلين الثاني والثالث، فنخصصهما لدراسة حالة المنطقة العربية.
فنتطرق في الفصل الثاني لتأثير السياسات التقشفية على انفاذ الحق في الصحة لكل المواطنين/ات، فيما نعالج في الفصل الثالث والأخير كيف تنعكس خصخصة القطاع الصحي والاتفاقيات التجارية سلبا على اعمال الحق في الصحة.
الفصل الأول: العولمة النيوليبرالية، المؤسسات المالية الدولية وحقوق الانسان.
1.1 تطور ظاهرة العولمة ودور المؤسسات المالية الدولية.
تطور ظاهرة العولمة: العولمة ليست بالظاهرة الجديدة رغم طغيان استعمال هذا المصطلح في الخطابات العلمية والصحافية وفي أوساط المال والاعمال والراي العام، بل هي ملازمة بشكل عضوي للرأسمالية بسبب نزوع هذه الأخيرة الى الانتشار داخليا (من خلال اكتساح مختلف أوجه الحياة العامة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية) وجغرافيا من اجل استمرار عملية التراكم الرأسمالي وتعظيم الأرباح. ويمكن تمييز ثلاث مراحل تاريخية أساسية في تطور العولمة وهي:
المرحلة الاستعمارية ومرحلة العولمة ” المقيدة ” ومرحلة العولمة النيوليبرالية.
تميزت المرحلة الاستعمارية للعولمة بتمدّد الاستعمار المباشر إلى أنحاء العالم بسبب تسابق القوى العظمى الغربية إلى احتلال مناطق العالم المختلفة ليس لأسباب اقتصادية فقط، وإنما لأسباب استراتيجية أيضاً. وقد سعت هذه القوى الى كسب أسواق لمنتجاتها الصناعية ولاستثماراتها المالية مع السيطرة على الموارد الأولية والزراعية الضرورية لاقتصاداتها. وقد نجم عن هذه المرحلة الاستعمارية من العولمة تعزيز مظاهر الهشاشة والتبعية لتذبذب أسعار المواد الأولية في بلدان الجنوب المستعمرة. وقد استمر هذا الاستعمار من الربع الأخير من التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثاني.
مرحلة العولمة المقيدة و”المتفاوض عليها” (بمعنى ” أن حكومات وشعوب آسيا وإفريقيا، والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وحلفائها خلقوا هيكلاً تفاوضياً متعدد الأقطاب يحكم النظام العالمي” (العولمة، 2018)..
ويعزى الطابق المقيد للعولمة الرأسمالية الى الظروف التي برزت غداة الحرب العالمية الثانية حيث تمكنت النقابات والأحزاب العمالية في البلدان الراسمالية المتقدمة من فرض ميزان للقوى نتج عنه تبني نموذج دولة الرفاه وهيمنة الفكر الكينيزي على السياسات العمومية واضطرار الرأسمال الى التكيف مع مقتضيات العلاقات الاجتماعية.
لكن هذه العولمة ما فتئت تفقد بريقها مع بداية السبعينات من القرن الماضي مع بروز ازمة الركود التضخم، مما فتح الباب واسعا للانتقال الى العولمة النيوليبرالية مع صعود “مارغريت تاتشر” و”رونلد ريغن” الى سدة الحكم في كل من بريطانيا والولايات المتحدة في عامي 1979 و1980.
مرحلة العولمة النيوليبرالية : تتميز هذه المرحلة باستعادة الرأسمال الكبير للمبادرة حيث سيتمكن من فرض مشروعه السياسي واجندته الاقتصادية المبنية على “الاقتصاد الحر”. وسيضغط بقوة على الحكومات من اجل خفض الضرائب ورفع القيود على القطاع المصرفي والمالي وخفض تكلفة العمل من خلال سن “مرونة” سوق الشغل. هكذا، ستتبنى الدول الراسمالية المتقدمة ثلاثية ” لبرلة ” الاقتصاد- الخصخصة – الأولوية للحفاظ على توازنات الاقتصاد الكلي”، سعيا وراء خلق مناخ ملائم لتفعيل اليات السوق الكفيلة وحدها تحقيق التوظيف الأمثل للموارد المتاحة.
1.2 المؤسسات الدولية كفاعل أساسي لتنفيذ العولمة النيو ليبرالية :برامج التكييف الهيكلي.
غداة الحرب العالمية الثانية، تم احداث ما يسمى ب”مؤسسات بريتن وودس”، وهي مكونة من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (“الجات”) التي ستتحول الى منظمة التجارة العالمية سنة 1995.
وقد كان الهدف وراء انشاء هذه المؤسسات هو ضمان تطور واستقرار النظام الرسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة من خلال التبادل التجاري الحر وإطار نقدي ومالي دولي متحكم فيه. غير ان دخول هذا النظام في ازمة هيكلية بعد قرار الولايات المتحدة وقف قابلية تبديل الدولار إلى ذهب (وهو أهم أركان نظام “بريتن وودز”) سنة 1971 سيؤدي الى تحول في الوظائف المسندة للمؤسستين الماليتين الدوليتين (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي). هكذا، ستتدخل هاتين المؤسستين في بلدان العالم الثالث الغارقة في ازمة الدين الخارجي لضمان تسديد ما بذمة هاته الأخيرة تجاه الدائنين الخواص بالأساس لإنقاذ بنوك البلدان الرأسمالية المتقدمة. سيتم فرض مشروطية قاسية من طرف المؤسستين الماليتين المذكورتين مقابل الحصول على قروض مالية، وتهدف الى تخلي البدان الدائنة عن نموذج الاقتصاد الموجه من طرف الدولة لفائدة نموذج يعتمد على حرية الأسواق والمبادرة الحرة وإعادة توجيه الاقتصاد نحو التصدير. هكذا، تم اخضاع هذه البلدان الى وصفة “برامج التكيف الهيكلي” وما يسمى ب”توافق واشنطن” (واطرافه هم الخزينة الامريكية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي) (Stiglitz ,2002 )، وترتكز على ثلاثية لبرلة الاقتصاد-الخصخصة-التقشف.
ينبغي التذكير بان الهدف الرئيسي لهذه البرامج هو ادماج اقتصادات بلدان الجنوب في النظام الرأسمالي المعولم والاستجابة لحاجيات الاحتكارات الكبرى والشركات المتعددة الجنسية في التوسع وتحقيق المزيد من التراكم الراسمالي والهيمنة العالمية (Petras J. et Veltmeyer, 2001 H. ). وقد عبر عن هذه الحجة بوضوح Percy Barnevik ، رئيس مجموعة Asea Brown Bovery حينما عرف العولمة (او “الكوكبة” حسب تعبير المفكر الاقتصادي الراحل إسماعيل صبري عبد الله) بانها ” الحرية لمجموعة شركاتي بان تستثمر أينما ارادت ومتى ارادت، وان تنتج أي سلعة/خدمة تريد، وتشتري وتبيع في أي مكان تختاره ، مع تحمل اقل القيود الممكنة في مجال قوانين العمل والاتفاقيات الاجتماعية” (Chenais F.1997 ).
تتمحور برامج التثبيت والتكيف الهيكلي حول استرجاع التوازنات الاقتصادية الكلية (التحكم في التضخم، توازن المالية العمومية وميزان المدفوعات)، والتحرير التدريجي للقطاعات الصناعية والتجارية والمالية، وخصخصة شركات القطاع العام، ورفع القيود الإدارية والتنظيمية على مبادرات القطاع الخاص. وتقتضي استعادة التوازنات الماكو- اقتصادية تطبيق سياسات تقشفية صارمة مثل خفض الانفاق العام، والضغط على كتلة الأجور، والتخلي عن دعم المواد الأساسية، فيما تمر لبرلة الاقتصاد مثلا عبر سياسات تجارية اكثر تحررا، وتحرير سعر الصرف و الاسعار بصفة عامة.
اما في مجال الضبط والتقنين، فتهم التغييرات المنتظرة على الخصوص “تحسين مناخ الاعمال ” ، أي الإجراءات الحكومية المنظمة لأنشطة القطاع الخاص، بما فيها تغيير قوانين الشغل لإضفاء طابع المرونة على علاقات العمل.
واذا كان دور صندوق النقد الدولي قد تراجع خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، الا انه سجل رجوعا قويا مع اندلاع الازمة المالية العالمية سنة 2008،خاصة بعد ظهور ازمة الديون السيادية في أوروبا جراء تدخل الدولة بشكل مكثف لإنقاذ القطاع المالي والمصرفي من الانهيار.من اهم الإجراءات التي تم اللجوء اليها لتنزيل برامج التكيف الهيكلي والسياسات التقشفية لمواجهة ازمة الديون السيادية بأوروبا تقليص او حذف الدعم المقدم لمواد أساسية كالمحروقات والكهرباء والمواد الغذائية والمدخلات الفلاحية، وتجميد او خفض كتلة الأجور في الإدارات العمومية، والزيادة في الضرائب على المبيعات والضريبة على القيمة المضافة، و”اصلاح” أنظمة التقاعد، وخصخصة المرافق العمومية وتطبيق مرونة الشغل الخ. (محمد سعيد السعدي 2022).
1.3 العولمة النيوليبرالية وحقوق الانسان (خاصة الحق في الصحة).
1.3.1 تأثير برامج التكيف الهيكلي على حقوق الانسان.
نظرا لاعتبارات مرتبطة بالحيز الكمي المخصص للورقة، سنعرض للصلات بين السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (7) لتحليل معمق لهذه الصلات انظر مثلا ( Balakrishnan R. and Elson D. 2011)،
على ان نتوسع أكثر في هذا الموضوع في الفقرة الخاصة بالحق في الصحة).
يتبين من استعراض متأن للوثائق والمنشورات من طرف خبراء منظمة الأمم المتحدة حول التجارب في افريقيا وامريكا اللاتينية بعد تجربة 20 سنة من التقويم الهيكلي “ان هذه السياسات لم تكن متسقة مع الاحتياجات الإنمائية الطويلة الاجل للبلدان النامية. والادلة المتاحة تدحض ادعاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بان برامج التكيف الهيكلي تخفف من الفقر وتعزز الديموقراطية بل ان برامج التكيف الهيكلي تسترشد بمبادئ حرية النشاط الاقتصادي التي تشدد على الكفاءة والإنتاجية وتنحاز للمجموعات التي تمارس نشاط التصدير والتجارة الدولية وذلك على حساب الحرية المدنية والحكم الذاتي” (آثار سياسات التكيف الهيكلي 1999).ويهم هذا التأثير على الخصوص الحق في العمل والحق في الغذاء والحق في التعليم والحق في التعليم.
- -الحق في العمل :يعترف العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحق كل إنسان في ظروف عمل «عادلة ومرضية». وهذا يعني التمتع بالأجور العادلة والأجر المتساوي للعمل المتساوي وتكون كافية لتوفير العيش الكريم للعمال ولعائلاتهم. كما تنص هذه المادة على ظروف عمل آمنة وتكافؤ الفرص في مكان العمل وقسط كاف من الراحة واوقات الفراغ بما في ذلك ساعات عمل محدودة والعطلات العادية المدفوعة. وتعترف المادة 8 بحق العمال في تشكيل النقابات او الانضمام اليها وتحمي حقهم في الاضراب. كما تحث لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، على الاخذ بعين الاعتبار ضرورة حماية الحق في العمل في سياسات القروض التي تعتمدها.غير ان ما يلاحظ هو ان “الإصلاحات” التي توصي بها هذه المؤسسات تضر بشكل مباشر بالحق في العمل في ظروف عادلة من خلال تركيزها على مرونة سوق الشغل، بدعوى ان هذه الأخيرة تعتبر عاملا حاسما في تحسين تنافسية السلع والخدمات في البلدان المقترضة. فقد أثار النقاد الانتباه الى ان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي غالبا ما يستهينون بالتداعيات السلبية لإعمال ” مرونة الشغل ” في مجال حقوق الانسان. هكذا، أكد تقرير للجنة حقوق الانسان التابعة للمم المتحدة ان السياسات التي تحث على اعتماد “مرونة الشغل” تعتبر انتهاكا لحقوق الانسان (United Nations General Assembly 2016). من جهة اخرى، يؤثر عدد من “الإصلاحات ” الاقتصادية النيو ليبرالية سلبا وبشكل غير مباشر على حماية حقوق العمال. فسياسات تحرير التجارة وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة تؤدي الى سباق نحو القاع في مجال احترام حقوق العمال حيث يضغط الرأسمال المحلي على صانعي القرار من اجل خفض الأجور حتى يتسنى لهم مواجهة المنافسة العالمية. كما تدفع السياسات النقدية المتشددة الحكومات الى التخلي عن حقوق العمال في مجال الأجور (الحد الأدنى للأجور كمثال) بدعوى الطابع التضخمي للزيادة في هذه الأخيرة (Stubbs and Kentikelenis A 2017).
- الحق في الغذاء:
لقد نجم عن تطبيق برامج التكيف الهيكلي تهديد حقيقي للامن الغذائي لفئات عريضة من المجتمع في بلدان الجنوب. ويؤكد خبراء الأمم المتحدة بان مستويات التغذية في صفوف الفقراء قد انخفضت جراء الغاء الإعانات الغذائية، ولتنامي البطالة. كما أدى تغيير السياسات الزراعية من انتاج الأغذية للاستهلاك المحلي لصالح المنتوجات المجهة للتصدير كالبن أو القطن أو التبغ من اجل توليد العملة الأجنبية، أدى الى هبوط حاد في انتاج الأغذية وفي انخفاض مستويات التغذية وسوء التغذية (اثار سياسات التكيف الهيكلي 1999). - الحق في التعليم:
تعتبر المواثيق الدولية ان لكل شخص الحق في التعليم (المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان). والملاحظ ان اعتماد برامج التكيف الهيكلي قد ساهم في التراجع عن المكتسبات التي حققتها عدد من الدول “النامية” في مجال تمدرس الأطفال مثلا خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي .وهذا راجع بالأساس الى تجميد او خفض الإنفاق على التعليم. كما يمكن للتعليم الابتدائي ان يتأثر سلبا حيث سجل انخفاض في نسبة الأطفال ما بين السادسة والحادية عشرة المسجلين في المدارس من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). وهذا قد يؤثر على الحد من أوجه اللامساواة بين الذكور والاناث، ذلك ان ارتفاع الرسوم قد يدفع الاسر الى الامتناع عن تسجيل بناتها في المدارس عندما تواجه الاختيار بين اطفالها التي ترغب في تعليمهم. ويمكن ان ينجم عن هذا التمييز اثارا سلبية على صحة الرضيع والطفل على المدى البعيد بالنظر الى العلاقة الحيوية القائمة بين رفاه الطفل ومستوى تعليم الام (المرجع نفسه). - الحق في السكن:
يؤدي ضعف الأجور او انخفاضها وتفضي البطالة نتيجة تطبيق برامج التكيف الهيكلي الى عدم تمكن العديد من الاسر من تلبية احتياجاتهم الضرورية خاصة في مجال السكن. بالإضافة الى هذا، ينجم عن ارتفاع أسعار الفائدة تبخر فرص الحصول على سكن. من جانب اخر، ومع احجام الدولة عن توفير السكن مباشرة او من خلال تقديم اعانات للأسر الفقيرة ورفع الضوابط المقننة لسوق الكراء، يصبح المالكون الخواص في وضع يسمح لهم باستغلال الفقراء، الذين غالبا ما يخصصون قسطا هاما قد يصل الى النصف من دحلهم المحدود للكواء (المرجع نفسه).
1.3.2 تأثير العولمة النيوليبرالية على الحق في الصحة
ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أشمل مادة تتعلق بالحق في الصحة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. ووفقاً للمادة 12 من العهد، تقر الدول الأطراف “بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه”، في حين تسرد المادة 12، على سبيل المثال، عدداً من “التدابير التي يتعين على الدول الأطراف … اتخاذها لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق”.”.غير ان “الإصلاحات النيولبرالية” التي تضمنتها برامج التكيف الهيكلي من خلال الضغط على الانفاق العمومي ورفع الضوابط التنظيمية وخصخصة قطاع الصحة اثرت سلبا على اعمال هذا الحق وفقا للتشريعات الدولية. ولتحليل الانعكاسات السلبية لهذه “الإصلاحات” نعتمد في هذه الفقرة على الاطار المفاهيمي الذي طوره Kentikelenis A.E كما هو مبين في الرسم رقم 1(Kentikelenis A.E , 2017).
الرسم البياني 1:
أ) قنوات التأثير المباشر:
أولا: ينجم عن سياسة التثبيت والقشف تقليص الانفاق العام على الصحة. ويمكن ان يؤثر هذا التقليص بشكل خاص على الاستثمار، وبالتالي على الخدمات الصحية (على سبيل المثال، عدد المنشآت الصحية المتوفرة).بالقابل، يلاحظ بان برامج التكيف الهيكلي المتفق عليها بين المؤسسات المالية الدولية وبلدان امريكا اللاتينية أدت الى خفض الانفاق العام على السياسة الاجتماعية والتامين الاجتماعي، لكن مع تسجيل تحسن في الانفاق على الصحة (المرجع نفسه).
ثانيا: تأثرت القوة العاملة في القطاع الصحي جراء التسريحات وتجميد التوظيف وتخفيض الأجور (مثلا من خلال فرض حدود قصوى للأجور)، مما يدفع العاملين في القطاع الى الهجرة الى الخارج.
ثالثا: نجم عن فرض رسوم للاستفادة من خدمات النظام الصحي تقليص فرص الولوج اليها من طرف الفات المستضعفة. رابعا، أدى رفع القيود التنظيمية الى نمو القطاع الصحي الخاص، مع ما نجم عن هذا التحول من تمييز اجتماعي وطبقي، حيث يمكن الفئات القادرة على الدفع من الاستفادة من حزمة واسعة ومتنوعة من الخدمات. بالمقابل، قد يتزامن هذا التوجه مع تقليص في الخدمات الصحية العمومية لصالح الفئات الفقيرة او الاستعانة بالمنظمات غير الحكومية. وتبعا لهذه التأثيرات المباشرة على الحق في الصحة، ثم اللجوء الى الفاعلين غير الحكوميين لسد الفراغ (خاصة المنظمات الدولية وجمعيات المجتمع المدني).
ب) قنوات التأثير غير المباشر
أولا: يؤدي خفض قيمة العملة المحلية الى ارتفاع أسعار الادوية المستوردة والمعدات الطبية، مما يجعل اقتناءها أكثر صعوبة، خاصة بالنسبة لمدودي الدخل والفئات المستضعفة.
ثانيا: يؤدي حذف التعريفات الجمركية الى تراجع إيرادات الموازنة العامة على المدى القصير، مما قد يؤثر سلبا على الموارد المالية المخصصة لقطاع الصحة. بالمقابل، هناك احتمال الزيادة في هذه الإيرادات في حال تحسن معدل النمو من جراء الانفتاح أكثر على الخارج.
ثالثا: ينجم عن خصخصة مؤسسات القطاع العام زيادة في إيرادات الخزينة العامة، لكن هذه الأخيرة ستضرر على المدى المتوسط والبعيد بفقدان المداخيل التي كانت توفرها الشركات العمومية من قبل.
ج) التأثير على المحددات الاجتماعية للصحة.
المحددات الاجتماعية للصحة : يقتضي اعمال الحق في الصحة “عدم التركيز فقط على الحد من الامراض …ولكن ايضا في أسبابها الجذرية
فضلا عن التأثير على النظم الصحية، للسياسات النيولبيرالية بالغ الأثر على المحددات الاجتماعية للصحة قد يتجاوز مفعولها فترة تنزيل برامج التكيف الهيكلي. ويتم هذا التأثير عبر أربع قنوات رئيسية: أولا: ينجم عن تطبيق برامج التكيف الهيكلي تراجع محسوس في المداخيل وانتشار للبطالة والفقر مع ما يتبعهما من تفاقم الفوارق الطبقية والاجتماعية. وهذه التبعات بدورها تعد أسبابا جوهرية لمشاكل صحية قد تدوم مدى الحياة.
ثانيا: تعتبر التربية والتعليم من المحددات الاجتماعية الأساسية للصحة، ذلك انها تحسن من معرفة الافراد للصحة وكيفية الولوج الى الخدمات الصحية، كما تؤثر إيجابا على حظوظ الارتقاء الاجتماعي ويغذي بدوره مجموعة من المحددات الاجتماعية للصحة (العمل والدخل على سبيل المثال. والحال ان السياسات النيوليبرالية لا تساعد على النهوض بالتربية والتعليم، بل تحد من إمكانية الولوج اليها، خاصة بالنسبة للمرأة والأطفال. هكذا، أوصى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بفرض رسوم لولوج التعليم الابتدائي او فرضا تقليص عدد العاملين في قطاع التعليم، مما اثر سلبا على التحصيل التعليمي للأطفال (اثار سياسات التكيف الهيكلي 1999).
ثالثا: ينجم عن تطبيق برامج التكيف الهيكلي اثارا سلبية على البيئة والسياسات البيئية، بما فيها الماء، والصرف الصحي والزراعة والطاقة. على سبيل المثال، قد تؤدي توصيات المؤسسات المالية الدولية الى الاضرار بالبيئة، مع ما ينجم عن هذا الوضع من تدهور للحالة الصحية للساكنة. كما ان خصخصة توزيع الماء قد يجعل النفاذ اليه أكثر صعوبة لأصحاب الدخل المحدود. وهذه كلها عوامل قد تتضرر جراءها الحالة الصحية للمواطنين على المدى. البعيد. أخيرا وليس آخرا، يؤدي تطبيق برامج التكيف الهيكلي الى تهديد التماسك الاجتماعي وتغيير الانماط القيمية والثقافية لصالح الفردانية والانانية على حساب الصالح العام.
الفصل الثاني: سياسات تقشفية على حساب الحق في الصحة في المنطقة العربية
عرفت البلدان العربية (نركز في هذا البحث على البلدان ذات الدخل المتوسط، مستثنين على الخصوص بلدان الخليج العربي) مثل باقي بلدان الجنوب، تطبيق سياسات نيوليبرالية تم تنزيلها في اطار برامج التكيف الهيكلي خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وقد اثرت هذه السياسات سلبا على الحق في الصحة بشكل مباشر من خلال تهميش القطاع الصحي العمومي، او بشكل غير مباشر بفعل انعكاساتها على المحددات الاجتماعية للصحة (البطالة والفقر، تفاقم الفوارق الطبقية والاجتماعية، تردي الأوضاع التعليمية، الخ.).ورغم ان معظم البلدان العربية رفعت شعار “الصحة للجميع” واعتمدت على القطاع الحكومي لتلبية معظم الحاجيات الصحية الأساسية، غير ان هذه البلدان واجهت عوائق نوعية من أهمها نقص الكوادر البشرية وانخفاض مستويات الكفاءة المهنية، بالإضافة الى ضيق الحيز المالي بفعل الضغط على الانفاق العمومي واعتماد سياسات الخصخصة وتسليع الخدمات الاجتماعية، مما أدى الى تفاوتات في معدلات الوفيات والمرض وتفشي حالات عدم المساواة المتقاطعة مع حالات عدم الانصاف في ما بين فئات الدخل وتلك المتعلقة بالنوع الاجتماعي والتعليم والموقع الجغرافي (محمود عبد الفضيل،2012 و سها بيومي، 2016 )
وما يهمنا في هذا الفصل هو تبيان التأثير السلبي لمواصلة تطبيق السياسات النيوليبرالية في المجال الصحي بعد الربيع العربي، خاصة في بعدها التقشفي، مع ما نجم عنه من عدم استعداد عدد من البلدان العربية لمواجهة جائحة “كوفيد 19”. سنعرض للسياسات التقشفية المعتمدة بعد الربيع العربي قبل ان نحلل تداعياتها على الحق في الصحة في المنطقة العربية.
2.1 مواصلة السياسات التقشفية بعد الربيع العربي
2.1.1 سياسات صندوق النقد الدولي ما بعد الربيع العربي
يبرر صندوق النقد الولي ضرورة اللجوء الى سياسات التقشف وباقي الوصفات النيو ليبرالية بتباطؤ النمو العالمي والركود الاقتصادي في منطقة اليورو، إضافة إلى ارتفاع أسعار الغذاء والوقود وانتقال تداعيات الأزمة السورية إلى بلدان الجوار. كما يشير الى العوامل الداخلية لما بعد الربيع العربي والمتمثلة في أجواء عدم اليقين وتعثر الإصلاحات
السياسية الجارية مع ميل الحكومات لزيادة دعم المواد الأساسية رغم استمرار الاحتياجات الكبيرة للتمويل ( محمد سعيد السعدي، 2022). للخروج من هذا الوضع، يرى صندوق النقد الدولي ضرورة إعطاء الأولوية للحفاظ على الاستدامة الخارجية والمالية وتقليص المديونية العمومية. وهذا يستدعي تفعيل أدوات السياسة المالية العامة والسياسة النقدية ” لتوفير شروط النمو الشامل لكل قطاعات المجتمع”. فمن جهة، ينبغي التحكم في أوضاع المالية العمومية وترشيد الاستثمارات العمومية بالموازاة مع تقوية شبكات الأمان الاجتماعي لفائدة الفقراء. على مستوى آخر، يتعين اعتماد سياسة نقدية حدرة تجاه التضخم وتعزيز مرونة أسعار الصرف بالموازاة مع هذا، يجب مواصلة الإصلاحات الهيكلية (مراجعة الإطار التنظيمي لسوق الشغل، اصلاح، تنظيم قطاع الاعمال والحوكمة، تحسين الحصول على التمويل).
يتضح من خلال هذا العرض لتصور صندوق النقد الدولي، بأنه يعتمد المقاربة نفسها التي قدمناها سابقًا، ومفادها باختصار أن التحكم في عجز الموازنات يعتبر اعتماد سياسة تقشفية عامل مهما رجاع الثقة للقطاع الخاص المعول عليه ليكون قاطرة
للنمو الاقتصادي.
2.1.2 الإجراءات التقشفية المعتمدة من خلال الاتفاقات المبرمة مع صندوق النقد الدولي من اجل الحصول على قروض او من خلال التقارير الرقابية بناء على البند الرابع من اللائحة التنظيمية للصندوق.
رغم الربيع العربي، اعتمدت الحكومات بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا معدل ثلاث إجراءات تقشفية لكل بلد بغية التحكم في عجز الموازنة العامة (Ortiz I. Cummins M. 2013).
وتتصدر قائمة هذه الإجراءات الضغط (تجميد او تخفيض) على الكتلة الاجرية ومراجعة برامج الدعم والأنظمة الضريبية (جدول رقم1). ويعتبر التخلي عن دعم المواد الأساسية (خاصة المحروقات والمواد الغذائية كالدقيق والسكر والزيت) الاجراء الذي تتقاسمه كل البلدان العربية (رغم لما له من حساسية سياسية واجتماعية، خصوصا في غياب سياسات للحماية الاجتماعية الشاملة في البلدان العربية. بالمقابل، كانت هناك ” إصلاحات ” أخرى قصد الدراسة من طرف 7 حكومات من اصل عشر، مثل الزيادة في الضرائب غير المباشرة (الضريبة على القيمة المضافة) وخفض الإعفاءات الضريبية، بالإضافة الى التحكم في الكتلة الاجرية وخفض تكلفة تسيير المؤسسات العمومية. من جهة أخرى، كانت دول اخرى تنوي إعادة النظر (“اصلاح”) في أنظمة التقاعد (تونس) او مراجعة سياستها الصحية (الأردن) من خلال تقنين الانفاق على الصحة واستعمال المستحضرات الصيدلية.
ويتبين من خلال دراسة الإجراءات المعتمدة خلال الفترة 2012-2015 تعزيز هذا التوجه التقشفي المضر بالتنمية والتقدم الاجتماعي. ويستنتج من قراءة الجدول 2 ما يلي:
تركز كل الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على “اصلاح” دعم الدولة للمواد الأساسية، خاصة المحروقات، وفي بعض الأحيان المواد الغذائية وسلع أخرى. من بين الإجراءات الأخرى المشتركة بين كل بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقي، نجد تجميد او خفض كتلة الأجور، بالإضافة الى “اصلاح” سوق الشغل. هكذا، اتخذت مصر قرارا يقضي بتسقيف كتلة الأجور بالقطاع العام ومراجعة شاملة لنظام الأجور بالوظيفة العمومية وبالإضافة الى الحد من تعويض الموظفين المغادرين بسبب بلوغ سن التعاقد. وصارت على نفس النهج بلدان كالجزائر والمغرب والأردن. من جهة أخرى، اتجهت كل من الجزائر ومصر والأردن والمغرب وتونس لإدخال “المرونة” على سوق الشغل من خلال تخفيف الضوابط التنظيمية وتحسين برامج التكوين.
جدول 2 الإجراءات التقشفية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (2012-2015)
2.2 الآثار على الحق في الصحة
تؤثر المشروطية المفروضة من طرف المؤسسات المالية الدولية من خلال فرض اعتماد ما يسمى ب ” الضبط المالي ” او “ضبط الأوضاع المالية ” سلبا على الحق في الصحة عبر عدة قنوات من أهمها خفض عجز الموازنة العامة للدولة والقيود المتبعة في مجال توظيف القوة العاملة، بالإضافة الى الضغط على الاستثمار العمومي في الصحة. سنقوم بمناقشة تأثير هذه القنوات الثلاث تبعا بالنسبة للبلدان العربية.
2.2.1 الضغط على الانفاق العام على الصحة وتحميل المواطن جزءا اكبر من مصاريف التطبيب والعلاج.
يوضح الشكل 1 تطور “نصيب الفرد من الانفاق العمومي على الصحة” خلال الفترة 2000-2019 بالنسبة لمجموعة مختارة من البلدان العربية مع استثناء دول الخليج نظرا لعدة اعتبارات أهمها الوفرة المالية التي يتوفرون عليها وحجم الساكنة وقدرتهم على جلب الخبرة الطبية الأجنبية. ويلاحظ ان هذا المؤشر قد عرف على العموم نسبة نمو معتبرة بالنسبة لبلدان كالأردن وتونس والجزائر ومصر، وبنسبة اقل بالنسبة للبنان والمغرب والعراق، وذلك خلال الفترة 2000-2008.وتسري نفس الملاحظة على معدل نمو منحنى ” الانفاق العمومي على الصحة مقارنة مع الناتج الداخلي الخام” (الشكل 2)، حيث يلاحظ المنحى التصاعدي لهذا المؤشر خلال الفترة 2000-2008 بالنسبة لتونس والجزائر ومصرو وبدرجة اقل بالنسبة للمغرب ولبنان والعراق. ومعلوم ان الاقتصاد العالمي سجل انتعاش اقتصاديا مهما خلال الفترة المذكورة اتسمت على الخصوص ب “أمولة العولمة” وظهور فقع عقارية ومالية بالولايات المتحدة وأوروبا.
غير ان هذه الفقع انفجرت في عام 2008 لتؤدي الى بروز ازمة مالية عالمية ستلقي بظلالها على عدد من كبير من بلدان المعمور ابتداء من سنة 2010. هكذا ستتبنى بلدان الإتحاد الأوروبي والعديد من البلدان العربية على الخصوص سياسات تقشفية ستنعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها القطاع الصحي، ابتداء من 2011-2013.هكذا سيتراجع بشكل محسوس معدل نمو منحنى “نصيب الفرد من الانفاق العمومي على الصحة” بنسب متفاوتة لكل البلدان العربية خلال الفترة 2012-2019. ويلاحظ بان نفس التراجع بالنسبة لمعدل نمو منحنى “الانفاق العمومي على الصحة مقارنة مع الناتج الداخلي الخام”، مع تسجيل تقهقر ملحوظ بالنسبة لبلدان كمصر وتونس والجزائر.
ولتوضيح الصورة أكثر، اخترنا مثال المغرب من خلال معدل منحى “نمو الانفاق على الصحة بصفة عامة” حيث يلاحظ التراجع المحسوس لهذا المعدل خلال الفترة 2010-2016 (الشكل 3).
شكل 1
نصيب الفرد من الإنفاق الصحي الحكومي العام المحلي، تعادل القوة الشرائية (بالدولار الدولي الحالي) – المغرب، مصر، الجمهورية العربية، تونس، الجزائر، لبنان، الأردن، العراق
شكل2
الإنفاق الحكومي العام المحلي على الصحة (٪ من الناتج المحلي الإجمالي) – المغرب، مصر، الجمهورية العربية، تونس، الجزائر، لبنان، الأردن، العراق
شكل 3: تفصيل نمو الإنفاق الصحي بالقيمة الاسمية
ونتيجة لضعف الانفاق العمومي على الصحة، يضطر المواطنون/ات الى تحمل الجزء الأكبر من الحاجيات الطبية والعلاجية. هكذا إذا استثنينا حالة بلدان الخليج العربي حيث تبلغ مساهمة الدولة في تلبية هذه الحاجيات 60 في المائة على الأقل، يؤدي المواطن من جيبه نصيب كبير من الاحتياجات الطبية، خاصة في بلدان كمصر واليمن وسوريا والعراق والمغرب (الجدول 3).
جدول 3: المؤشرات المالية للصحة (النفقات من الأموال الخاصة
2.2.2 الأثر على القوة العاملة في الصحة العمومية.
يؤدي خفض الانفاق العمومي على الصحة جراء اتباع سياسات تقشفية تعطي الأولية للتوازنات الماكرو اقتصادية، وعلى راسها خفض عجز الموازنة الى سبة 3٪ من الناتج الداخلي الخام، الى الضغط على الكتلة الاجرية من خلال تجميد او تقليص التوظيف الى الحد الأقصى و/أو عدم تعويض العاملين البالغين سن التعاقد، بالإضافة الى الانحياز الى التوظيف عبر عقد محدد الاجل (او ما يسمى في بعض البلدان العربية كالمغرب بالتعاقد) وتجميد او خفض الأجور.
- خفض التوظيف:
لم نستطع العثور على معطيات تبين تطور القوة العاملة في القطاع الصحي العام بالمنطقة العربية، وهذا راجع الى ان الاحصائيات التي توفرها منظمة الصحة العلمية لا تفرق بين العاملين/ت في القطاع العام والعاملين/ت في القطاع الخاص. أخذا بعين الاعتبار هذا التحفظ، يتبين من قراءة الجدول 4 ان معدل عدد الأطباء لكل 10000 قد تراجع خلال الفترة 2014-2019 بخمسة بلدان (الجزائر ومصر والعراق والمغرب وسوريا) من اصل عشرة او بقي مستقرا بالنسبة لبلدين (تونس وليبيا)، في حين سجل تحسنا في ثلاثة بلدان ( الأردن ولبنان والسودان).وبالمثل وخلال نفس الفترة، سجل معدل العاملين/ات في مجال التمريض (جدول 5) تراجعا في ستة بلدان من اصل احدى عشر وهي الجزائر، مصر، الأردن، ليبيا، السودان، وسوريا، فيما ارتفع في خمسة بلدان (العراق، لبنان، المغرب، تونس واليمن). ويبقى على العموم مشكل تمويل القطاع الصحي العام والذي زاد من حدته تطبيق سياسات تقشفية، يبقى عائقا كبيرا في وجه تحسين العرض الصحي في البلدان العربية. ذلك ان هذه الأخيرة تسجل تأخرا ملحوظا في مجال الموارد البشرية الطبية والتمريضية مقارنة مع المعدل العالمي وكذا مع المعدل ببلدان الخليج العربي (انظر الرسمان البيانين رقم 6 و7).
جدول4: القوى العاملة الصحية (الأطباء(
العاملين بالتمريض، جدول 5: القوى العاملة الصحية
شكل 6 :المهنيون الصحيون المؤهلون
شكل 7 :عدد الأطباء لكل 10000 نسمة
- الضغط على الأجور:
ينجم عن الأولوية التي تعطيها الحكومات في المنطقة العربية تنفيذا لتعليمات المؤسسات الدولية للتحكم في التضخم وتقليص عجز الموازنة اعتمادها على خفض الأجور كآلية لتحقيق هذين الهدفين. ويوضح الشكل 8 تضرر القدرة الشرائية للقوى العاملة بشكل عام في البلدان العربية. هكذا تراجع معدل النمو السنوي للأجور الحقيقية بشكل محسوس حيث سجل نسبة نمو 3،3 في المائة سنة 2015 (مقارنة مع نسبة نمو تقدر ب 9،8 في المائة سنة 2014) قبل ان تتدهور بشكل محسوس الى -0،5 في المائة عام 2016 و -0،8 في المائة سنة 2017.اما سنتي 2018 و2019 فقد عرفت زيادة طفيفة ب 0،3 في المائة و 0،4 في المائة على التوالي.
من جهة أخرى، سينجم عن تجميد او تقليص الأجور تداعيات سلبية على مستوى التنمية البشرية. فالعديد من البلدان العربية ذات الدخل المتوسط والمنخفض تشكو من نقص كبير في الطاقات البشرية المتوفرة من أطباء وممرضين/ات ومدرسين وعاملين في القطاع الاجتماعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقدر الخصاص في المجال الصحي ب”97 الف من الأطر الطبية وشبه الطبية وأن البلد في حاجة لـ25 سنة من أجل تدارك الخصاص في الموارد البشرية في القطاع الصحي” (وزير الصحة يقول … 2021 ) . ومن المتوقع ان يؤثر تضرر القدرة الشرائية للعاملين/ات بالقطاع الصحي على معنوياتهم ويقلل من انتاجيتهم ويزيد من ظاهرة الغياب عن العمل وتنامي العمل في القطاع غير الرسمي وتفاقم هجرة العقول والكفاءات الى الخارج. وستكون حصيلة هذا الوضع سلبية في مجال الخدمات العمومية المقدمة للمواطنين خاصة بالأحياء الشعبية بالمدن وبالقرى.
شكل 8 : معدل النمو السنوي للجور الحقيقية في البلدان العربية (٢٠٠٦ – ٢٠١٩).
- العاملات بالقطاع الصحي هن المتضررات الأكثر من تدهور ظروف العمل نتيجة تبني سياسات صحية تقشفية.
يتميز القطاع الصحي عالميا بالاعتماد على خدمات النساء العاملات أكثر من الرجال. ويظهر الشكل 9
ان النساء يشكلن 78 في المائة من الطاقم التمريض بمنطقة شرق المتوسط (تضم هذه المنطقة جل البلدان العربية باستثناء الجزائر) مقبل 22 في المائة من الرجال. بالمقابل، قليلة هي مناصب القيادة والمسؤولية التي تتقلدها النساء كممرضات او كطبيبات. وتبين معطيات منظمة الصحة العالمية ان النساء يحصلن على أجور اقل من الرجال كما يعانين من اشكال أخرى من التمييز في العمل على أساس النوع الاجتماعي.
OMS,2020
شكل 9: نسبة النساء والرجال ضمن هيئة التمريض حسب الأقاليم
2.2.3 التأثير السلبي على الاستثمار في القطاع الصحي العمومي.
نظرا لغياب المعطيات المجمعة حول الاستثمار في الصحة بالمنطقة العربية، اعتمدنا على مؤشري عدد الاسرة المتوفرة بالمستشفيات وعدد وحداث الرعاية الصحية الأولية التي توفرها تقارير منظمة الصحة العالمية لقياس تطور الاستثمار في الصحة خلال العشرية الأخيرة. كما يجب اثارة الانتباه الى ان المؤشرين المذكورين لا يمكنان من معرفة نصيب كلا من القطاعين العام والخاص من المجهود الاستثماري في الصحة.
يوضح الجدول رقم 6 تطور مؤشري عدد الاسرة في المستشفيات لكل 10000 نسمة وعدد وحدات الرعاية الصحية الأولية لكل 10000 نسمة خلال الفترة ما بين 2008-2015-2020. ويلاحظ بان مؤشر عدد الاسرة في المستشفيات لكل 10000 نسمة قد تراجع بالنسبة لتسعة بلدان من أصل اثني عشر (لم نأخذ بعين الاعتبار الوضع الخاص لبلدان الخليج العربي لأسباب شرحناها من قبل). وقد سجلت كل من مصر والأردن ولبنان وليبيا تراجعات محسوسة في هذا المجال.
اما بالنسبة لمؤشر عدد وحدات الرعاية الصحية الأولية، فقد تراجع كذلك في تسع حالات من اصل احدى عشر حالة. وتجدر الإشارة الى ان عدد الاسرة في المستشفيات بالنسبة لكل 10000 نسمة بالبلدان العربية يبقى اجمالا دون الحد الأدنى العالمي والمحدد في ثمانية عشر (WHO, SDG indicator metadata 2021-12-20. ).
من جهة أخرى، لاحظ بعض الباحثين بان تبني سياسات صحية تقشفية ينعكس سلبا على الانفاق على الصحة الوقاية مقارنة مع الصحة العلاجية رغم أهمية الأولى خاصة للحماية من الجائحات (Olivier J. Noël A.,2022).
جدول 6: مؤشرات الموارد المادية الصحية (النسبة لكل 10.000نسمة).
2.2.4 السياسات الصحية التقشفية لم تساعد على مواجهة جائحة كوفيد-19
إذا كانت جائحة كوقيد 19 قد كشفت الدور الرئيسي للمحددات السوسيو اقتصادية في انتشار هذا الفيروس، فإنها سلطت الضوء كذلك على عدم استعداد الأنظمة الصحية لمواجهتها نظرا للخصاص الملاحظ في الموارد البشرية وعدم كفاية التجهيزات والمنشآت الطبية وقلة وحدات العناية المركزة، بالإضافة الى تهميش الصحة الوقاية لصالح الصحة العلاجية. كما ابرزت ضعف الحماية الاجتماعية الشاملة في المنطقة العربية لوصفها وسيلة فعالة لمواجهة مختلف الاخطار التي تواجه المرء طوال حياته، خاصة الصحية منها. وقد تبين بان انعكاسات تفشي الجائحة كان اشد وطئا على الفئات المستضعفة، خاصة في القطاع غير الرسمي ووسط العمال الذين يعانون من الهشاشة. وهذا ما تؤكده الباحثة رنده علمي حيث تكتب بان “تأثير الجائحة قد تضاعف بسبب ضعف أنظمة تمويل الصحة وعدم ملائمة الحماية الاجتماعية التي يستفيد منها العاملون في القطاع الرسمي على حساب الفئات الفقيرة والهشة في المجتمع…..(بالإضافة الى هذا)، “اذا كان عدم توفر الاوكسجين الطبي ووحدات العناية المركزة يشكل في حد ذاته اشكالا في مواجهة الجائحة، فان التوفر على قطاع صحي عمومي قوي وريادي يعتبر وسيلة دفاع اكثر أهمية للوقاية منها” .
Alami R.A 2022 .
الفصل الثالث: الخصخصة – الاتفاقيات التجارية (حقوق الملكية الفكرية) – الحق في الصحة.
تعتبر المقاربة النيوليبرالية الصحة بمثابة سلعة تخضع ل “قانون” العرض والطلب، وليس بحق أساسي من حقوق الانسان كما شرعتها المواثيق الدولية. لهذا، ينبغي على الدولة فتح المجال للقطاع الخاص المحلي والاجنبي للنهوض بهذا القطاع الحيوي بالنسبة للمجتمع كما بينت ذلك جائحة كوفيد19.وهناك ثلاثة عوامل رئيسية ساعدت على نمو وانتشار خصخصة الرعاية الصحية هي الحيز المالي الضيق للحكومات (وهو نتيجة لاختيارات مناهضة للعدالة الضريبية والاجتماعية) وضغوطات المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، خاصة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، وأخيرا الاتفاقيات التجارية الثنائية. سنعرض لتوسع القطاع الخاص في البدان العربية والمخاطر الذي يشكلها من حيث تحقيق الانصاف والعدالة الصحية الشاملة، ثم نتطرق للاتفاقيات الدولية والثنائية وما تتضمنه من إجراءات قد تؤثر على اعمال الحق في الصحة، مركزين على اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة في المنطقة العربية بالنظر الى تأثيرها المباشر في هذا المجال.
3.1 خصخصة القطاع الخاص وتداعياته على الحق في الصحة.
تتمظهر خصخصة القطاع الصحي الخاص من خلال عدة اشكال نذكر منها تصاعد التامين الخاص على المرض (يقوم التأمين الصحي الخاضع لفكرة حرية الدفع لتلقي خدمات متميزة ضمن علاقة تعاقدية ينتفع من خلالها المؤمن من سلة خدمات محدودة بسقف مالي محدد) على حساب التمويل العمومي او المبني على التكافل الاجتماعي (او التعاضدي)، واتساع مجال العرض الصحي الخاص، إضافة الى استرداد تكاليف الخدمات الصحية المقدمة واعتماد قواعد “الإدارة العامة الجديدة” (نقل منهجيات عمل القطاع الخاص لإدارة مؤسسات القطاع العام مع التركيز على الكفاءات وتحقيق المرونة والتوجه نحو اللامركزية والتركيز على النتائج)و التوريد من الخارج لبعض الخدمات (التنظيف، التحاليل المخبرية مثلا)
Christine ANDRÉ, Philippe BATIFOULIER, Mariana JANSEN-FERREIRA, 2015-02)
سنركز في هذه الفقرة على انتشار العرض الصحي الخاص وأمولته على حساب القطاع العام مع اثارة الانتباه لتداعياته السلبية على الحق في الصحة.
أ- تطور خصخصة القطاع الصحي بالمنطقة العربية: نحو “أمولة” القطاع الصحي الخاص.
لا توجد بيانات كافية للتطرق بإسهاب الى اتساع مجال القطاع الصحي الخاص في المنطقة العربية. لهذا، استقينا المعطيات الرئيسية لمعالجة هذا الموضوع من دراسة حديثة نسبيا صادرة عن منظمة الصحة العالمية (منظمة الصحة العالمية، 2018).
كما استعننا بدراسة صدرت مؤخرا عن مجلس المنافسة المغربي حول المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها (رأي مجلس المنافسة , 2022).
يعرف البنك الدولي القطاع الصحي الخاص بانه “مقدمو الخدمات الصحية الرسميون الهادفون الى الربح دون غيرهم” (
Harding A, Preker AS. Private participation in health services. Washington DC: The International Bank for
Reconstruction and Development/The World Bank; 2003 مذكور في منظمة الصحة العالمية، 2018)
وقد تطور هذا القطاع بشكل متنامي منذ تسعينات القرن الماضي لعدة عوامل نذكر منها ارتفاع الطلب على الخدمات الصحية الذي وازاه تهميش القطاع الصحي العام. وقد أدت الربحية المرتفعة وضعف انفاذ النظام الضريبي الى ارتفاع الاستثمار الخاص في القطاع الصحي، خاصة من طرف الأطباء.
يغطي القطاع الصحي الخاص مختلف الأنشطة المرتبطة بالرعاية الصحية من الخدمات خارج المستشفيات والخدمات داخلها والاستثمار في البنى التحتية وإنتاج الادوية وتوريد واستعمال التكنولوجيات الصحية، مع استثناء الصحة الوقائية التي لا تستهوي القطاع الخاص. وتتراوح نسبة مساهمة هذا القطاع في توفير الرعاية الصحية بالنسبة للبلدان العربية ذات الدخل المتوسط والمنخفض ما بين 33٪ و88٪ من خدمات العيادات الخارجية او الخدمات خارج المستشفيات. ويوضح الجدول 7 توزيع عدد المستشفيات والاسرة داخل المستشفيات بين القطاعين العام والخاص حيث نلاحظ تباينا واضحا بين مجموعتي البلدان 1 و 2.فالمجموعة الأولى تتميز بهيمنة المستشفيات التابعة للقطاع العام, وهذا راجع بالأساس للامكانيات المالية الكبيرة التي تتوفر عليها بلدان الخليج العربي. بالمقابل, يلاحظ. بان عدد المستشفيات التابعة للقطاع الخاص يفوق تلك التابعة للقطاع العام في بلدان المجموعة 2 التي تضم البلدان ذات الدخل المتوسط.
ويمتلك القطاع الخاص من 60٪ الى ما يقرب 100٪ من الصيدليات في البلدان متوسطة الدخل، فيما تتراوح هذه النسبة بين 22٪ و 98٪ في البلدان منخفضة الدخل. كما يلاحظ تركيز كبير للقطاع الصحي الخاص بالمناطق الحضرية حيث توجد الفئات الاجتماعية القادرة على الدفع.
الجدول 7: توزيع عدد المستشفيات والاسرة داخل المستشفيات بين القطاعين العام والخاص.
ب) نحو “أمولة” (هيمنة الهاجس المالي الربحي والياته)Financialization القطاع الصحي الخاص في المنطقة العربية.
من مظاهر تسليع الصحة وتحويلها الى خدمة مربحة توجه الرأسمال الأجنبي والمحلي الى الاستثمار فيها. وتعمل عدد من البلدان العربية على جلب الصناديق المالية الخاصة للانخراط في هذه “الدينامية” من خلال تغيير التشريعات والقوانين. هكذا، تضمن القانون رقم 131.13 المتعلق بمزاولة مهنة الطب بالمغرب تغييرات رئيسية همت شروط إحداث واستغلال المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها والقوانين المتعلقة بسيرها وتنظيمها. وفي هذا الإطار، تم التنصيص على فتح رؤوس أموال هذه المصحات في وجه المستثمرين من غير الأطباء (خاصة صناديق الاستثمار وشركات التامين(. ومند ذلك الحين، عرف مشهد المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها ظهور “مجموعات المصحات” في القطاع الهادف إلى الربح، و المعروفة أيضا باسم “المجموعات الصحية” والمنظمة في الغالب وفقًا لنموذج الشركة القابضة. وتضم عدة مصحات خاصة من حيث الحجم والموقع الجغرافي المختلفين، منضوية تحت حكامة واحدة.
وهناك حاليا مجموعتين خاضعتين لرؤوس أموال أجنبية هما:Elsan” المجموعة المتخصصة في الاستشفاء بفرنسا، ومجموعة مراكز الفحص والعلاج التابعة لصندوق الاستثمار الإنجليزي.Alta Semper الذي يوفر علاجات متخصصة بالمغرب و مصر، أعلنت وزارة الصحة في السنة الماضية عن طرح خمسة من أكبر مستشفياتها العامة للبيع أمام القطاع الخاص (خصخصة مستشفيات المؤسسة العلاجية بمصر.. 2022). وهناك رهان على جلب رجال اعمال من دول الخليج العربي للاستفادة من هذا المشروع اخذا بعين الاعتبار تجربة المملكة العربية السعودية في هذا المجال (خصخصة مستشفيات القطاع العام 2012). ويدخل هذا البرنامج في اطار تحرير الخدمات الصحية، عبر فتح الباب للأطباء من أي جنسية لمنافسة الأطباء المصريين في فرص العمل، وهو ما يعد جزءا من خطة تحرير الخدمات لاتفاقية تحرير تجارة الخدمات (“الجاست”) الموقعة في اطار منظمة التجارة العالمية. كما تم تسجيل “زيادة وتيرة الاندماجات والاستحواذات في القطاع الصحي الخاص، الذي أصبح جاذباً بشكل كبير لمستثمرين من الخليج العربي، نتيجة الأرباح والعوائد الضخمة التي تحققها المستشفيات الخاصة، لتحتل الاستحواذات المالية في هذا القطاع المرتبة الثانية من إجمالي القطاعات الاقتصادية المصرية”
وكشفت نفس الدراسة عن تزايد “القلق بشأن التكتلات الاحتكارية في القطاع الطبي الخاص، الذي يشكو أغلب المصريين من انفلات أسعار خدماته، إثر استحواذ شركة “أبراج كابيتال” الإماراتية على مجموعة من المستشفيات الكبرى مثل كليوباترا والقاهرة التخصصي والنيل بدراوي، وأكبر سلسلتين من معامل التحاليل في البلاد، وهما “البرج” (926 فرعاً و55 معملاً بيولوجياً)، و”المختبر” (826 فرعاً)
بدورها قامت مجموعة علاج الطبية السعودية بالاستحواذ على 9 مستشفيات كبرى، بالإضافة إلى معامل “كايرو لاب” للتحاليل الطبية واسعة الانتشار في مصر، ومراكز “تكنو سكان” للأشعة التي تمتلك بدورها 24 فرعاً في محافظات مختلفة (مصر تبيع 5 من أكبر مستشفياتها العامة…. 2022).
من جهة أخرى، لجأت الحكومة المصرية الى تنفيذ مشاريع صحية من خلال سياسة “الشراكة بين القطاع العم والقطاع الخاص، ونذكر في هذا المجال تحالف شركة البريق للاستثمار وتنمية المشروعات وشركة دار التجارة والمقاولات ديتاك وشركة سيمنز للمعدات والأجهزة الطبية وشركة جى فور اس لوتس الإنجليزية لإدارة المنشآت ستقوم بتنفيذ مشروعين، مستشفى سموحة للولادة ونقل الدم، ومستشفى المواساة التخصصي، وإدارتهما جزئيا (7 شراكة مع القطاع الخاص أم خصخصة للخدمات العامة ؟، بدون تاريخ).
ب: مخاطر الاعتماد على القطاع الخاص لضمان الحق في الصحة للجميع (رشا كالوتي، 2021)
- على مستوى استجابة النظام الصحي لانتظارات المواطنين/ت، يلاحظ بان الخصخصة تؤدي الى زيادة التمييز ضد أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف التامين الخاص وبالتالي لا يتم منحهم الأولوية. كما ينجم عنها زيادة التفاوت الصحي بين المناطق الريفية والحضرية، فتغطية الرعاية الصحية أقل في المناطق الريفية، وبالتالي تسجل وفيات الرضع فيها مستويات أعلى.
من جهة أخرى، بينت احدى الدراسات الاستعراضية أنه بالرغم من أن خصخصة الرعاية الصحية في المملكة العربية السعودية يمكن أن تؤدي إلى تحسين الإنتاجية، إلا أن مؤشرات جودة الخدمة لا تتأثر بشكلٍ كبير بالخصخصة، كما تبين أن إمكانية الوصول ساءت نتيجة للخصخصة (Al Mutairi & Al Shamsi. 2018) - من ناحية القدرة على تحمل تكاليف الرعاية الصحية، لوحظ بان الخصخصة تشجع على بروز ظاهرة “الاستحلاب” “Cream skimming” or “cherry picking”
حيث ينزع القطاع الصحي الخاص الى تركيز الخدمات بشكلٍ أساسي (ومتعمد) على الزبناء منخفضي التكلفة أو المخاطر أو العملاء ذوي القيمة العالية لتحقيق مزيدًا من الأرباح. وقد ثبت أن خصخصة الرعاية الصحية تزيد من هذه الممارسات، فالأشخاص الذين لا يعانون من أي أمراض، أو المرضى الذين يعانون من مشاكل خفيفة (تكلفة منخفضة) أو الأصغر سنًا، غالبًا ما يتم منحهم الأولوية في القطاع الخاص لتحقيق ربح أعلى (رشا كالوتي، 2021).
اما فيما يخص تحسين الكفاءة، تثير رشا كالوتي الانتباه ان المبالغة في التشخيص والعلاج تعد “من السمات الشائعة لأنظمة الرعاية الصحية الخاصة، والتي غالبًا ما تنظر إلى المرضى على أنهم مجرد مصدر للأموال وليس مرضى. ينتج عن هذا تخصيص غير فعّال للأموال والموارد. وقد لوحظ في مناطق أخرى من العالم (الهند على سبيل التحديد( بان الخصخصة المتزايدة ادت إلى زيادة مفرطة في استخدام الفحوص التشخيصية، ووصفات المضادات الحيوية، والعمليات الجراحية غير الضرورية. فيميل الأطباء إلى خدمة مصالح أصحاب العمل بدلاً من المرضى، وهذا يؤدي إلى إهدار مالي كبير” (المصدر نفسه).
3.2 الاتفاقيات التجارية وحقوق الملكية الفكرية تعرقل اعمال الحق في الصحة للجميع.
تؤثر منظمة التجارة العالمية على الرعاية الصحية من خلال اتفاقيتن اساسيتين: اتفاقية تحرير تجارة الخدمات (ما يسمى ب”الجاتس”General Agreement on Trade and Services ) واتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة (ما يعرف ب “التريبس”Agreement on Trade- Related Aspects of Intellectual PropertyRights). بالإضافة الى هذا، يشكل اعتماد الاتفاقيات التجارية الثنائية او الإقليمية التي تضم احكام “التريبس” الإضافية تهديدا حقيقيا للوصول الى العلاج للجميع.
3.2.1 الخطوط العريضة لاتفاقية تحرير تجارة الخدمات (“الجاتس”).
ان تحرير التجارة والاستثمار الذي عمل المنظمة العالمية للتجارة على نشره وترسيخه لا يقتصر على حركة السلع ورؤوس الأموال، بل يتعداهما ليطال التجارة في الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والحصول على الماء والسكن، وكل الخدمات الأساسية التي لها تأثير مباشر على الصحة. ويضم الجدول رقم 8 الاتفاقيات المبرمة في اطار المنظمة التجارية العالمية والتي لها تأثير مباشر على الحق في الصحة وهي: اتفاقية تنفيذ تدابير الصحة والصحة النباتية (لها تأثير مباشر على سلامة الغذاء)، اتفاقية العوائق التقنية. اما التجارة (لها تأثير على انتاج الادوية والمواد البيولوجية والأغذية)، اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة (لها تأثير على الادوية) والاتفاق العام المتعلق بالتجارة في الخدمات (لها تأثير على الخدمات الصحية).
يتم انتاج الخدمة وتوزيعها وتسويقها وبيعها عبر أربع وسائل هي: عبور الخدمة للحدود الدولية، انتقال المستخدمين من دولة الى أخرى، دخول موردي الخدمة الأجانب الى دولة ما بهدف انشاء كيان تجاري فيها لتوليد خدمة ما وانتقال الأشخاص الطبيعيين الذين ينتمون الى دولة عضو لتوريد خدمة ما من دولة عضو.
تتمثل الوسيلة الأولى في تنقل الأشخاص من أجل الاستهلاك الى الخارج (حالة المرضى من اجل العلاج او الطلاب/الطالبات من اجل الدراسة)، اما الوسيلة الثانية فتعني تنقل المهنيين الى الخارج من اجل تقديم خدمة (حالة المهنيين الصحيين المهرة)، وتهم الوسيلة الثالثة تنقل موردي الخدمة الى الخارج (حالة الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاع الصحي)، والوسيلة الرابعة تتمثل في الخدمات العابرة للحدود (حالة التطبيب عن بعد: تقديم الرعاية الصحية، التشخيص والعلاج، التعليم والتدريب الطبي، تقديم الخبرة الفنية في التطبيب عن بعد).
نود ان نشير الى ان تحرير تجارة الخدمات عبر تنقل المستخدمين والمهنيين ذوي المهارات العالية سيفاقم من الخصاص في القوى العاملة في القطاع الصحي عبر “هجرة الادمغة”، مما سينعكس سلبا على الولوج الى الرعاية الصحية في بلدان الجنوب. بالإضافة الى هذا، سيؤدي تنقل موردي الخدمة الى الخارج الى تعميق اللامساواة في الولوج الى العلاج وتكريس نظام صحي بمستويين متباينين على حساب الفئات الاجتماعية الهشة وغير القادرة على الدفع.
جدول 8:اهم اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وارتباطاتها بقطاع الصحة
3.2.2 اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة (تريبس)
تلتزم الدول الموقعة على اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة باعتماد المعايير الدنيا لحقوق الملكية الفكرية مع ترك الحرية للأعضاء لاختيار تنفيذ القوانين التي تزيد من الحماية مقارنة مع نصوص الاتفاقية طالما انها لا تتعارض هذه الحماية الإضافية مع احكام الاتفاقية. وقد أدمجت اتفاقية تريبس لمنظمة التجارة العالمية، التي تم التفاوض عليها في جولة الاوروغواي، قواعد الملكية الفكرية في النظام التجاري المتعدد الأطراف. وتسمح بنود اتفاقية “تريبس” بمرونة نسبية ومقيدة في صياغة اللوائح والتشريعات الوطنية ضمانا لتوازن مناسب بين توفير الحوافز للاختراعات المستقبلية للأدوية الجديدة وتسهيل الحصول على الادوية الموجودة (على سبيل المثال لا الحصر، إمكانية استعمال”البنود المرنة في الاتفاق” – مثل الاستيراد الموازي والرخص الإجبارية- التي تعطي البلدان ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة الخيار في الاستفادة من الأدوية الجنيسة،أي أدوية تقارن بالأدوية ذات العلامات التجارية من حيث الشكل والجرعة والقوة والجودة والمفعول وهدف الاستعمال ويتم تصنيعها دون الحصول على رخصة من الشركة المخترعة، لكنها مضمونة الجودة وبتكلفة اقل).
لكن التجربة ابانت عن مساوئ اتفاقية تريبس حيث أدى تطبيقها في ماليزيا مثلا الى ارتفاع كبير في أسعار الادوية بلغ معدلا سنويا قدر ب 28٪ ما بين سنتي 1996 و2005، كما ان مليارين من سكان الأرض لا زالوا محرومين من الحصول على الادوية الأساسية بسبب العائق الأساسي المتمثل في غلاء اسعارها (L’accès aux médicaments ….2015).
3.2.3 اتفاقية احكام حقوق الملكية الفكرية الإضافية (اتفاقية “تريبس” الإضافية)
يلاحظ بان الولايات المتحدة قامت بالالتفاف على اتفاقية “تريبس” تحت ذريعة انها لا توفر الحماية الكافية لشركات الادوية الامريكية، وذلك من خلال ابرام اتفاقيات للتبادل الحر تنص على تشديد هذه الحماية لصالحها تحت ما يسمى ب”الاحكام الإضافية ل”تريبس”.TRIPS PLUS”.
يتعلق الامر بتبني قوانين لحماية حقوق الملكية الفكرية على نحو أكثر صرامة مما تتطلبه شروط منظمة التجارة العالمية. بالإضافة الى هذا،تهدف هذه الاتفاقية الحد من إمكانية استعمال البنود المتعلقة بالمرونة النصوص عليها في اتفاقية “تريبس” والتقليل من فعاليتها.من الأمثلة على ذلك: تمديد فترة صلاحية وسريان براءات الاختراع* ؛ منح براءات اختراع لاستخدامات أو صياغات جديدة لأدوية موجودة بالأصل، وحصرية البيانات*.وقليلا ما تستوفي المفاوضات حول هذه الاتفاقيات شروط الشفافية والمشاركة من المعنيين من منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية التي تناضل من اجل الحق في الصحة للجميع ، بعيدا عن الاعتبارات التجارية والربحية.
يبرر مناصرو احكام قبضة شركات الادوية الكبرى على حقوق الملكية الفكرية بان آفاق تحقيق أرباح كبيرة ضمن احتكارات مؤقتة محمية ضد التقليد غير المشروع تحفز على الاستثمار في البحث والتطوير لابتكار ادوية وأساليب انتاج جديدة. لهذا، يجب على الدولة ان تدعم هذه الشركات للحصول على نسبة ربحية مرتفعة (أو “ريع” بالمعنى الاقتصادي لهذا المفهوم) تعوضهم عن التكاليف التي يتحملونها من جراء عمليات البحث والتطوير، وذلك من خلال تمكينهم من احتكار السوق لمدة معينة (20 سنة على الأقل). بيد ان الدراسات تشير أن معايير “تريبس” الإضافية ترفع من أسعار الأدوية بحكم انها تؤخر أو تقيّد المنافسة من الأدوية الجنيسة وبالتالي توثر بشكل مباشرعلي إمكانية الحصول على الأدوية (تعزيز و حماية حقوق الإنسان………. 2009). كما تبين بالتحليل أنه لا توجد دلائل قطعية على أن تطبيق اتفاقيتي “تريبس” و”تريبس الإضافية” في البلدان النامية قد شجع العمل البحثي أو تطوير العلاجات (لأن وجود سوق كافية تعتبر هي العامل الحاسم)؛ كما تبين خطأ الزعم بأن أنظمة حماية حقوق الملكية الفكرية أساسية للاستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا (تقرير ممثل وفد المنظمات غير الحكومية .. 2014).
3.2.4 تأثير “تريبس الإضافية” على اعمال الحق في الصحة في المنطقة العربية
أ- حالة المغرب: قوانين مشددة تحد من الولوج الى الرعاية الصحية
وقع المغرب سنة 2004 اتفاقية للتبادل الحر مع الولايات المتحدة تضمنت احكام متشددة فيما يخص حماية الملكية الفكرية من نوع “تريبس الإضافية”. وقد بينت دراسة مقارنة للأطر القانونية المتعلقة بضمان الوصول الى العلاج (تقييم واقع الملكية الفكرية… شتنبر2017
ITPC – MENA). بما فيها قوانين براءات الاختراع واللوائح الصيدلانية والمراسيم الصادرة بشأن الأدوية واتفاقيات التبادل الحر وما إلى ذلك غياب مرونة هذه القوانين في المغرب مقارنة مع مصر وتونس. هكذا استنتجت هذه الدراسة (انظر الجدول 9 ) ” أن الأحكام القانونية في مصر تتيح مرونة أكبر. أما بالنسبة للمغرب، فقد أدى توقيعه على اتفاقيات التبادل الحر مع الولايات المتحدة إلى إدراج قوانين أكثر تقييدا. وعلى الرغم من أن تونس تشمل أحكاما قانونية خاصة، إلا أنها قد تستفيد بشكل أفضل من إجراءات المرونة في اتفاقية تريبس بما في ذلك ما يتعلق بالتراخيص الإجبارية”.
جدول 9: الأثر بالنسبة لحماية الملكية الفكرية في مختلف القوانين ذات الصلة
ب – حالة الأردن: الاحتكار والزيادة في اسعار الادوية
تضمنت اتفاقية التبادل الحر بين الأردن والولايات المتحدة الموقعة في أكتوبر 2000 احكام “تريبس الإضافية”. وقد كان ادخال هذه الاحكام في قوانين الملكية الفكرية الأردنية شرطا أساسيا وضعته الولايات المتحدة لانضمام الأردن الى منظمة التجارية العالمية. لكن الطابع المقيد لأحكام “تريبس الإضافية “، خاصة ما تعلق بتمديد مدة حماية براءة الاختراع لما بعد العشرين سنة المحددة في اتفاقية “تريبس” واعمال “حصرية المعلومات” اثر سلبا على الحق في الرعاية الصحية. هكذا، سجلت أسعار الادوية في الأردن ارتفاعا بنسبة 20 في المائة منذ عام 2001، كما نتج عن تطبيق شرط حصرية البيانات احتكار السوق لمنع المنافسين من تسويق منتجاتهم وبالتالي تأخير او منع ظهور ادوية جنيسة اقل كلفة بالنسبة للمواطن ( الكلفة عالية … 2007).
من جهة أخرى، لو يسجل أي استثمار أجنبي مباشر من قبل شركات الأدوية الأجنبية داخل الأردن منذ 2001 خاص بتركيب او تصنيع الادوية بشراكة مع شركات محلية للأدوية النوعية. بالإضافة الى هذا، لم تمثل المنتجات الجديدة التي تم طرحها الا جزءا يسيرا من مجمل المنتجات التي يتم طرحها في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (المصدر نفسه).
جـ – اتفاقيات التبادل الحر المعمق والشامل تهدد الولوج الى الرعاية الصحية
يسعى الاتحاد الأوروبي اتباع نفس الاستراتيجية التي انتهجتها الولايات المتحدة خدمة لمصالح كبرى شركات الادوية الأوروبية من خلال “اتفاقيات التبادل الحر المعمق والشامل” المقترحة على المغرب وتونس في مرحلة أولى قبل طرحها على مصر والأردن في إطار ما يسمى ب “الشراكة الاورومتوسطية.”
إن الرافعة الأساسية لتحرير التجارة في اتفاقيات التبادل الحر المقترحة يمكن في إنجاز نوع من الالتقاية على مستوى الأنظمة والتشريعات من خلال الاستيعاب التدريجي للمكاسب الجماعية ACQUIS COMMUNAUTAIRE مجموع التشريعات والمعاير والأنظمة المشكلة لقوانين الاتحاد الأوروبي من طرف بلدان جنوب المتوسط المستهدفة (المغرب، تونس، مصر والأردن) ولا تهم هذه الاتفاقية التنظيمية تجارة السلع فحسب على سبيل المثال عبر ملاءمة المعايير الصناعية والمواصفات التقنية والتدابير المتعلقة بصحة الإنسان والنبات بل تشمل كذلك تجارة الخدمات والمشتريات الحكومية وقواعد المنافسة وحقوق الملكية الفكرية وحماية المستثمر.
يقترح الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد ادماج احكام “تريبس الإضافية” في مجال المعايير الصحية في القوانين الداخلية لتونس والمغرب (خاصة تمديد فترة حماية براءة الاختراعات وحصرية البيانات).وسيجعل هذا الاجراء الوصول الى الرعاية الصحية اكثر صعوبة، خاصة بالنسبة للفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة.ففي حالة تونس مثلا حيث يغطي الإنتاج المحلي للأدوية الجنيسة 70 في المائة من الطلب ،سينجم عن تمديد حماية براءات الاختراع لمدة تتجاوز العشرين سنة المنصوص عليها في اتفاقية “تريبس” لمنظمة التجارة العالمية حرمان صناعة الادوية التونسية من انتاج ادوية جنيسة تحل محل المنتجات الصيدلانية الأوروبية للجيل الجديد (Mohamed Haddad. ,
29/4/2019)
ويؤكد مهنيو قطاع الادوية في تونس ان الشركات الأوروبية الكبرى مستعدة لاستعمال كل الوسائل لإطالة مدة حماية براءات الاختراع التي قد تمتد الى 40 او 50 سنة مقابل معدل 20 سنة حاليا. لهذا، من المحتمل ان يؤدي قبول تونس لمشروع اتفاقية التبادل الحر والمعمق المقترحة من الاتحاد الأوروبي الى ارتفاع كلفة الرعاية الصحية بالنسبة للمواطن/ة التونسي بالإضافة الى تهديد بقاء الصناعة الصيدلانية المحلية.
الخلاصة
تطرقت هذه الورقة الى اثار العولمة النيوليبرالية على حقوق الانسان، خاصة الحق في الصحة. وقد بينت الدور المحوري الذي لعبته المؤسسات المالية الدولية في نشر السياسات النيوليبرالية المتحورة حول لبرلة الاقتصاد-الخصخصة-الأولوية للتوازنات الماكرواقتصادية من خلال برامج التكيف الهيكلي، مستغلة ازمة المديونية التي وقعت فيها بلدان الجنوب. كما حللت الميكانزمات التي اثرت من خلالها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية على الحق في الصحة، سواء كان هذا التأثير بشكل مباشر، او من خلال انعكاساتها على المحددات الاجتماعية للحق في الصحة. وقد ابرزت الورقة الاثار السلبية للعولمة النيوليبرالية على الحق في الصحة في المنطقة العربية، وذلك من خلال التطرق الى الانعكاسات السلبية للتقشف على مستوى الانفاق العام، ثم انفاذ سياسات الخصخصة، وأخيرا اتفاقيات التجار الحرة.
ففيما يخص الجانب الأول، نجم عن اعتماد السياسات التقشفية في البدان العربية ذات الدخل المتوسط تراجع محسوس في معذل نمو منحنى “نصيب الفرد من الانفاق العمومي على الصحة” بنسب متفاوتة لكل البلدان العربية في فترة ما بعد الربيع العربي وتحميل المواطن جزءا أكبر من مصاريف التطبيب والعلاج. كما تراجع التوظيف في القطاع الصحي العام وتم الضغط على أجور القوى العالمة في القطاع. اخيرا وليس اخرا، انعكس الضغط على الانفاق العمومي سلبا على المجهود الاستثماري في قطاع الصحة، خاصة في مجال المؤسسات الاستشفائية ووحدات الرعاية الصحية الأولية.
من جهة أخرى، أعطت الخصخصة دفعة قوية للقطاع الصحي الخاص وفتح الباب للرأس المال الأجنبي لتقديم خدمات صحية متنوعة. ونجم عن تعزيز هذا التوجه نمو مخاطر أمولة الصحة في البلدان العربية وتقليص إمكانيات تمتع الفئات الهشة من بالحق في الصحة.
أخيرا وليس اخرا، عكس ما تروج له المنظمات المتعددة الأطراف المالية والتجارية من تشجيع للاستثمار والابتكار، أدى توقيع اتفاقيات تجارية تتضمن حماية حقوق الملكية الفكرية خاصة تلك التي تنص على احكام “تريبس” الإضافية”، الى تعزيز الاحتكار لفائدة شركات الادوية الأوروبية والأمريكية للأدوية وتعطيل إمكانية الاستفادة من انتاج الادوية الجنيسة، كما أدت الى ارتفاع عدد منها، خاصة في بلدان عربية كالأردن والمغرب.
الهوامش
*”براءة الاختراع” تشير إلى حق صاحب البراءة في منع الآخرين من صناعة أو استعمال أو بيع أو من العرض للبيع أو استيراد اختراع معين لفترة محددة من الوقت. ويمكن منحها للمبتكر عن منتج معين أو عملية ما”.
- “حصرية البيانات”: تعطي المخترع الحق في منع أطراف ثالثة من استخدام البيانات المقدمة من قبل المخترع إلى الهيئة التنظيمية من أجل الحصول على ترخيص التسويق للمنتج الصيدلاني لفترة محددة
*الترخيص الاجباري:رخصة لاستغلال اختراع مسجل الملكية تصدرها الدولة بناء على طلب طرف ثالث ويعتبر واحدا من جوانب المرونة التي تمنحها منظمة التجارة العالمية من خلال اتفاقية تريبس.
*الاستيراد الموازي:شراء دواء مسجل الملكية من مصدر شرعي في بلد مصدر واستيراد هذا الدواء دون موافقة صاحب
براءة الاختراع “الموازية” في البلد المستورد.
*الربط بين براءة الاختراع ورخصة العرض في السوق: الربط بين الادوية الجنيسة ورخصة العرض في السوق انطلاقا من صلاحية براءة الاختراع للدواء الأصلي ورفض منح الرخصة حتى انتهائها.
*الاستعمالات التجريبية (شرط بولار”): من الممكن السماح بالاستعمال التجريبي للاختراع المشمول بالحماية عن طريق البراءة حيث انه لا ينتهك حق البراءة ولا ينتهك السوق المحمية.وقد تسمح بعض الدول بالاستخدام التجريبي لو الاختبارات السريرية والتجارب على الدواء المشمول ببراءة الاختراع للتصديق على فعاليت المنتج الجنيس بحيث يمكن وضعه في السوق حال انتهاء مدة حماية البراءة.
** ملحوظة: هذه التعريفات مقتبسة من ” تقييم واقع الملكية الفكرية وتأثيرها على الوصول إلى الأدوية في كل من المغرب وتونس ومصر، شتنبر2017
ITPC – MENA).
المراجع
Alami R. A New Normal in Health Policies in The Arab Countries ?,ERF Working Paper No. 1537 ,February 2022
Al Mutairi & Al Shamsi. Global Journal of Health Sciences. Healthcare system accessibility in the face of increasing privatization in Saudi Arabia: lessons from Australia. 2018
Analysis of the private health sector in Countries of the Eastern Mediterranean, Exploring Unfamiliar Territory, EMRO, 2014.
Balakrishnan R. and Elson D., Economic Policy and Human Rights, London, Zed Books,2011
Chenais F. La mondialisation du capital Syllepses, 1997.
Christine ANDRÉ, Philippe BATIFOULIER, Mariana JANSEN-FERREIRA
Privatisation de la santé en Europe. Un outil de classification des réformes, CEPN, Document de travail, 2015-02
EMRO Health indicators
Global Wage Report 2020-2021 ,Wages and Minimum Wages in Times of Covid, ILO
Harding A, Preker A S. Private participation in health services. Washington DC: The International Bank for Reconstruction and Development/The World Bank; 2003
Kentikelenis A.E., Structural adjustment and health: A conceptual framework and Science and Medicine, xxx 2017 evidence on pathways, Social
Kinnon M.C., World Trade :Bringing health into the picture, World Health Forum,Vol.
19,1998
L’accès aux médicaments au regard du droit à la santé,Haut Commissariat aux Droits de l’Homme, Nations Unies, 2015
Mobilising tax revenues to financethe health system in Morocco, OECD, 2020
Mohamed Haddad.En Tunisie, un accord avec l’UE menace de faire flamber les prix des médicaments,Le Monde, 29/4/2019
OIT,,Garantir un travail décentau personnel infirmier et aux travailleurs domestique acteurs clés de l’économie du soin à autrui Conférence internationale du Travail110ème session 2022
( Olivier J. Noël A., Austerity reduces public health investment, Cirano, 2022s-02, working paper)
OMS, La situation du personnel infirmier dans le monde (2020
Ortiz Isabel Matthew Cummins Jeronim Capaldo Kalaivani Karunanethy, The Decade of Adjustment: A Review of Austerity Trends 2010-2020 in 187 Countries, ESS Working Paper No. 53 the South Centre Initiative for Policy dialogue (ipd), Columbia University, 2015.
Ortiz I. Cummins M.The Age of Austerity, A Review of Public Expenditures and Adjustment Measures in 181Countries, Initiative for Policy Dialogue et South Centre ,Working Paper, mars 2013
Petras J. et Veltmeyer. Globalization Unmaskek, Fernwood Publishing Halifax, 2001. H.
Stiglitz J, Globalization and its discontents, WW Norton 2002
(10Stubbs and Kentikelenis A, International financial institutions andhuman rights: implications for public health Public Health Reviews (2017)
United Nations General Assembly. Report A/HRC/34/57/Add.1: report of the independent expert on the effects of foreign debt and other related international financial obligations of states on the full enjoyment of all humanrights, particularly economic, social and cultural rights. New York; 2016
WHO, SDG indicator metadata 2021-12-2020
World Development Indicators | DataBank
الكلفة عالية وليس هنالك من فوائد تذكر، اوكسفام، 2007
تعزيز و حماية حقوق الإنسان المدنية و السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك الحق في التنمية، تقرير المقرر الخاص المعني بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، أناندغروفر، الأمم المتحدة، مجلس حقوق الانسان، مارس 2009
تقرير ممثل وفد المنظمات غير الحكومية مجلس تنسيق برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة
البشري/الإيدز،9-11 كانون أول/ ديسمبر 2014
تقييم واقع الملكية الفكرية وتأثيرها على الوصول إلى الأدوية في كل من المغرب وتونس ومصر، شتنبر2017
ITPC – MENA).
محمود عبد الفضيل، سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية رؤية للمستقبل، دار العين للنشر،2012
محمد سعيد السعدي، أوهام النيوليبرالية في المنطقة العربية، منشورات شبكة المنظمات العربية غير الحكومية
للتنمية، بيروت، 2022)
منظمة الصحة العالمية، المكتب الإقليمي لشرق المتوسط، المشاركة مع القطاع الخاص للنهوض بالتغطية الصحية الشاملة، 2018
مصر تبيع 5 من اكبر مستشفياتها العامة….وقفزة في مصاريف العلاج، العربي الجديد، 17 سبتمبر 2022
خصخصة مستشفيات القطاع العام وأثرها على تحسين جودة الخدمات الطبيةمن وجهة نظر العاملين والمرضى المراجعين، دراسة تطبيقية على مستشفيات القطاع العام العاملة في مدينة جدة، مجلة الأبحاث الاقتصادية لجامعة سعد دحلب البليدة العدد07 ديسمبر2012 .
العولمة وبدائلها: لقاء مع سمير أمين، موقع “تريكونتينونطال،29 اكتوبر، 2018
آثار سياسات التكيف الهيكلي على التمتع الكامل بحقوق الانسان، تقرير مقدم من الخبير المستقل السيد فانتوشيرو وفقا
لمقرري اللجنة 102/1999 و103/1997، الأمم المتحدة، لجنة حقوق الانسان،24 فبراير 1999
رشا كالوتي، خصخصة الرعاية الصحية: عقبة في طريق تحقيق التغطية الصحية الشاملة، إمباكت إنترناشونال، 29 ابريل 2021
خصخصة مستشفيات المؤسسة العلاجية بمصر.. التداعيات المحتملة، موقع التخطيط السياسي سبتمبر 30, 2022
رأي مجلس المنافسة حول وضعية المنافسة داخل السوق الوطنية للرعاية الطبية المقدمة من لدن المصحات الخاصة والمؤسسات المماثلة لها، الرباط، 2022).
سها بيومي، الصحة والعدالة في مصر:نحو منظور الانصاف الصحي، التقرير العالمي للعلوم الاجتماعية، منشورات اليونسكو، باريس، 2016
منظمة الصحة العالمية، المحددات الاجتماعية للصحة، تقرير الأمين العام، يناير 2021)
وزير الصحة يقول إن المغرب تلزمه 25 سنة لسد خصاص الموظفين بالمستشفيات، موقع اليوم 24، 27 دجنبر .
نشرت هذه الدراسة ضمن تقرير الراصد العربي لسنة 2023 الصادر عن شبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية.