هذه عينة لامعة لحضور فلسطين في حرب الإعلام الدولي.
استضاف بيرس مورغان الإعلامي المصري باسم يوسف. بداية افترض مورغان أن المصري سيدافع بداهة عن الفلسطينيين، هذا هو انتماؤه. وقد أعد مورغان ردودا بناء على ذلك. لكن يوسف فاجأه وتقمص ساخرا دور شخص صوّت لنتانياهو فانهارت استراتيجية الصحافي. تقمص يوسف صوت جون بايدن بن شابيرو الذي طالب بقتل الفلسطينيين. بعد الكل تقمص يضيف يوسف تفصيلا: المشكل أن الفلسطينيين لا يموتون. لقد حاولتُ قتل زوجتي الفلسطينية وفشلت. وهي تستخدم أولادها دروعا بشرية.
يتحدث يوسف عن زوجته ويفكر مورغان في إسرائيل. هذا درس في كشف الدجل والزيف الإعلامي بالسخرية المتولدة من الأساليب الفلسفية والأدبية في الحوار.
ماذا فعل يوسف بالصحافي بطل العالم في لغة الخشب (البروباغوندا)؟
بداية بين له يوسف أن هنالك فرقا بين من يثرثر في استوديو مكيف ومن يتحدث من غرفة أو تحت القصف. والحل لهذا العذاب هو أن يوافق يوسف على كلام الصحافي المونولوجي فتنتهي المقابلة ويذهب يوسف ليستريح. خاف الصحافي من وقف المقابلة على المباشر وتابع التعبير عن بديهياته ومطالبة يوسف بالموافقة عليها.
هذه حلقة بثت مباشرة، لو سجلت وخضعت للمونتاج لكانت ولدت ميتة. لا تملك كل القنوات التلفزيونية شجاعة بث حوارات مباشرة.
فعلا يوافق يوسف: يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها ويضيف: بإبادة فلسطيني غزة.
يتزعزع الصحافي لأن يوسف مرر له كلمة جديدة ممنوع استخدامها في الشرق الأوسط.
هذا أسلوب جديد لإدارة الحرب الإعلامية في مواجهة أسلوب استجواب صحافي مستهلك.
ما سمات هذا أسلوب الاستجواب المستهلك؟
1- عادة يمرر الصحافي مقدمة طويلة فيها بديهياته وهي معلومات ناقصة أو محوّرة ومؤدلجة. حماس تقع في المريخ لا في فلسطين.
2- يقدم الصحافي ملاحظة عن ضمان سلامة مواطني إسرائيل ويطلب من الضيف موافقته عليها.
3- يتحدث الصحافي أكثر من الضيف. يطرح أسئلة طويلة. وفي كل مرة يقاطع الضيف لتصحيح السؤال . يزيد ملاحظة لم تكن واردة في السؤال. يصحح الصحافي سؤاله. لم يحرّره مسبقا. كان ذاك سؤالا مرتجلا. لم يسبق لسقراط – في جداله مع السفسطائيين – أن طرح سؤالا فيه أكثر من أربع كلمات. فمن أين استخرج صحافيو القرن 21 أسئلة من عشرين كلمة من ضمنها سبع أدوات نفي وصفر أداة استفهام؟
4- يتحدث الصحافي وكأن المشاهدين لا يعرفون الموضوع. تناسى الصحافي ما جرى في الحلقة السابقة عن ضرورة قتل الفلسطينيين مع ضيف إسرائيلي اسمه بن شابيرو. تناسى مورغان معجم ضيف السابق. هذه حيلة قديمة.
5- يتجنب الصحافي طرح سؤال دقيق من أربع كلمات وترك للضيف دقيقة كاملة ليجيب. حينها سيعبر الضيف عن وجهة نظر متماسكة تنسف فرضيات الصحافي المونولوجي. حين يستضيف الصحافي المونولوجي شبيهه تنمحي الحدود بين السؤال والجواب. يغرقان معا في المونولوج والواحد يكمل للآخر.
6- هدف هذا الأسلوب المستهلك: منع الضيف من أن يكون نجم الحلقة. يحتكر المعد النجومية لنفسه فيبهت.
ماذا يقع للصحافي الذي تعود أسلوب تقديم برنامج مونولوج ويسميه حواريا؟
ينكشف وسيتجنب مستقبلا استضافة أي شخص أمهر منه في الحوار.
إن اختبار سقراط “تكلم حتى أراك” ليس سهلا، غالبا ما يكون مميتا.
نصيحة مجانية:
المرجو من الصحافي الذي يستخدم هذا الأسلوب أن يضع كرونو أمامه لكي يحسب زمن كلامه ويتذكره ليكون وقت الأسئلة ربع وقت البرنامج على الأكثر. على أن يتحدث الضيف ثلاثة أرباع الحلقة. يمكن للصحافي ألا يقلق. ففي أربع حلقات من برنامجه سيكون قد تحدث أكثر من ضيوفه مجتمعين.
دون هذا، ما الذي يحصل للصحافي الذي يريد سماع صوته فقط حين يقع في يد معلق ساخر؟
يصير مسخرة. يقول الصحافي مشاعره: من المحزن قتل الفلسطينيين.
يؤكد له يوسف ذلك وهو يلعب على الباروديا:
فعلا من المحزن قتل الفلسطينيين لكن لكن لكن ذلك ضروي.
يقول مورغان فكرة فيوافق عليها يوسف ويضيف استدراكا لنسفها. ثمن دفاع إسرائيل عن نفسها هو مخيمات جديدة للفلسطينيين.
ماذا سيقول الصحافي الصهيوني وقد رأى شعاراته مسروقة ومحرفة بغرض تفنيدها بسخرية.
ليس بإمكان أي مثقف أن يسخر.
يؤكد مورغان إن حماس تستخدم السكان دروعا بشرية.
يوافق يوسف: صحيح، فحماس ترغم الفلسطينيين على البقاء في منازلهم لتقصفهم إسرائيل.
يفترض الصحافي أن الأمر البديهي هو التالي: يجب أن يهرب الفلسطينيون الحقيقيون من بيوتهم ليسكن فيها المستوطنون.
لقد تسلل يوسف إلى داخل السردية الغربية لينفسها من الداخل.
حسب مورغان فموضوع الحلقة هو “الوضع في إسرائيل” بسبب حماس. الواقع أن الحرب تجري في غزة.
يقول يوسف أن إسرائيل تقتل الفلسطينيين في الضفة الغربية وليس فيها حماس.
يفاجأ الصحافي الذي يسأل وكأن العالم بدأ اليوم، يلعب على الغامض والمتشابه، على فرضيات ملتبسة واهية، مثلا: من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها.
يتجاهل الصحافي أن هذا من حق الأخرين أيضا. لم يظهر قانون حمورابي عن المساواة هذا الصباح. لقد راكمت البشرية معارف وقواعد قانونية راسخة ومقالب جربت. كيف نشرح هذا بأعلى مستوى نشري وفلسفي؟
يقول كارل فون كلاوزفيتز: “يا لبؤس النظرية التي تتعارض مع المنطق”. “عن الحرب” ص 25.
الحوار السقراطي أعقد من فن الحرب.
هذا تعبير معقد، لنعبر عنه في حكاية:
مرة سألو مرة جحا: اذا شب حريق بالبحر واجتاحت النيران كل البحر، ماذا انت فاعل يا جحا؟
رد جحا: سأتناول كمية كبيرة من السمك المشوي.
يريد جحا الاستفادة من كل مصيبة. سمكة جحا أهم من البحر وكل البشرية.
إن مقابلة باسم يوسف مع بيرس مورغان مثال حي لدور الخطاب الاحترافي السياسي الأدبي في صراعات السياسة الدولية. سيكون مفيدا لمحللي الخطاب في معاهد الصحافة دراسة هذه الحلقة.
باسم يوسف يقدم درسا ساخرا للصحافة المونولوجية
كاتب وسينمائي مغربي
المقال التالي