في الوقت الذي يراقب فيه العالم أجمع، بقلق وخوف شديدين، المذبحة التي تحدث في الأراضي الفلسطينية، تتنافس الحكومات الغربية على الانبطاح تلبية لرغبات دولة استعمارية تحكمها حفنة من البلطجية لا شيء يبدو بإمكانه إيقاف عدوانها الهمجي.
إلى غاية صبيحة يوم 7 أكتوبر الماضي، وحتى قبل بدء الهجوم الصهيوني على قطاع غزة، تمكنت الآلة الإعلامية القوية التابعة للحكومات الغربية، بنجاح مؤكد، من الحفاظ على غموض وضبابية مقصودين حول تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
لكن هذه الآلة الإعلامية صارت اليوم مُحاصرة، وهي تفقد ما تبقى لها من مصداقية، أمام جهود ثلة من مراسلين مُعْدَمين، جنود صغار مسلحين بكاميراتهم وهواتفهم الذكية، يوثقون في كل لحظة الفظائع التي يرتكبها الاحتلال، في حرب صور لا تكشف الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، فحسب، بل يفضح أيضًا المؤسسات المنتخبة في “الديمقراطيات الكبرى” … وهذا على الرغم من الحصار الرقمي والرقابة الوقحة على الشبكات الاجتماعية، وعلى رأسها تلك التابعة لشركة “ميتا” العملاقة.
تشكل الإبادة الجماعية المستمرة في الأراضي المحتلة نقطة تحول في العلاقات بين مواطني ما يسمى بالدول الغربية الديمقراطية وقادتهم. وعلى الرغم من الحظر المفروض على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في بعض الدول الأوروبية، إلا أن الشوارع لا تزال ممتلئة بالمحتجين ضد مايجري. إذ يتحدى مواطنو تلك البلدان الحظر المفروض قسرا، رافضين كل تواطؤ لحكوماتهم في إبادة الشعب الفلسطيني.
ومع رفض الدول “الديمقراطية” الخضوع لإرادة مواطنيها من خلال الاستمرار في دعم وتسليح الدولة الصهيونية، فكيف، كما يتساءل البعض، يمكننا أن نطالب قادتنا بموقف واضح وملزم دبلوماسيا؟
لنأخذ حالة المغرب كمثال. إن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، في أعقاب اعتراف إدارة ترامب بمغربية الصحراء، لاقى ترحيبا جماعيا من قبل النخبة السياسية محليا، في وقت ارتفعت بعض الأصوات ضده، دون أن يكون لها الحق في التعبير عن موقفها في الشارع العام. طبقا لما سمي ب”المصالح العليا للوطن”!
وكان من المفترض أن تؤدي هذه العلاقة الدبلوماسية “الجنينية” في النهاية إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، يجسدها افتتاح سفارة إسرائيلية في المغرب.
نجحت المملكة، التي أبدت في الوقت نفسه رغبتها في لعب دور الوسيط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، في إقناع جزء كبير من الرأي العام الوطني بهذا المسعى.
ومن الواضح اليوم أن سبل الحوار والدبلوماسية مسدودة تماماً. فحكومة “الطوارئ”، التي يقودها اليمين الإسرائيلي المتطرف بقبضة حديدية، أعماها تعطشها لمحو الهوية الفلسطينية عن أي مسار دبلوماسي.
ومن المهم أن نذكر بأن العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل انقطعت في أكتوبر 2000، مع بداية الانتفاضة الثانية التي تسببت، خلال عدة سنوات من الصراع، في مقتل نحو 3000 شخص من الجانب الفلسطيني. حاليا، وبعد مرور 20 يوما من الغارات المتواصلة، تجاوزت حصيلة الضحايا 7000 قتيل في قطاع غزة. أرقام سيكون من غير اللائق مقارنتها أو التعليق عليها.
ففي الوقت الذي تصف فيه المنظمات الدولية الأكثر مصداقية، مجزرة غزة، بأنها جريمة حرب، تمهد لارتكاب جرائم ضد الإنسانية، اكتفى المغرب بدعواته إلى ضبط النفس والعودة إلى طاولة الحوار، بينما يمكنه أن يتحرك بشكل فعال نسبيا يبدأ بتجميد العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن قطع العلاقات الدبلوماسية، بين البلدين، من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى وضع حد لوحشيتها ضد الفلسطينيين. ولكن ما هو مؤكد، أن هكذا قرار سيزيد من عزلة الدولة الصهيونية، وفي الوقت نفسه، سيعزز ثقة الشعب المغربي في قادته السياسيين.
وقد يرد البعض بأن “المصلحة العليا للوطن” تسمو فوق كل اعتبار. أود أن أرد على هؤلاء الأشخاص بكلمات ألبير كامو: “أولئك الذين يفتقرون إلى الشجاعة سيجدون دائمًا فلسفة تبرر ذلك”.
ولكن دعونا نقف للحظة عند هذا الطرح ونُسائِله إلى حد العبث. لنفترض للحظة أن المصلحة لها الأولوية على القيم (حتى لا نقول الأخلاق). فما الذي يمنع مثلا الأقوياء أو المحظوظين بيننا من التخلص من مرؤوسيهم؟ استعباد الأضعف؟ الاتجار بأعضاء أبنائهم وذويهم؟… إلخ
الإجابة ستكون من دون تردد أن هذا الأمر همجي، رجعي ووحشي ينتمي لحقبة تاريخية تجاوزتها الإنسانية.
والأمر نفسه ينطبق على الإبادة الجماعية، استخدام الأسلحة الكيميائية، سياسة العقاب الجماعي، التفجيرات ضد المدنيين، الحرمان من الماء والغذاء، تدمير المستشفيات، والتطهير العرقي، والتهجير القسري… كل هذا يحدث اليوم، أمام أعيننا.. فأي “مصلحة عليا للوطن” من شأنها أن تدوس على القيم الإنسانية ؟