وسط لُقىً وأَرْقُمٍ وألواحٍ وأرقعةٍ وتعويذاتٍ يسبح مفهوم “الفرح الأبدي” كضياع بين الحقيقة والأمل، ويختلط بين كونِه رقصٌ دامٍ وذبحٌ صامتٍ في معمعان فيض خاطرٍ وجرف سيلٍ يهوي بالجميع إلى أسفل سافلين. وتصبح الأماكنُ وما استوعبته من وقائع وأحداث هي كما عاشها البشر لا كما خطّتها الأقلام، وتصير الأسئلة المُعلَّقةُ مُوزَّعةً بين انتظار أهالي الماضي للأجوبة من هنا، وبين انتظار خبراء وعلماء الحاضر للأجوبة من هناك.
فما بين عَسَسٍ تخلَّف الطَّربوشُ في يدي أحدِهم وزنزانةٍ احتفظت بالخُفّ والجلباب المُمزَّق، هناك نهرٌ مُضبَّب يُخفِي الجرائمَ ويتكفَّل بالباقي. كما أن هناك رحلات للبحث والتنقيب عن الخلود وللتَّوْقِ إلى العثور على بعض من ملامحه، التي يبدو أنها اختفت مع البطون المنتفخة في أثوابها الفضفاضة.
هكذا أوصى غريبُ اللِّبَاسِ والملامحِ شامتَه أو زوائدَه البشريّة المنتشرة في بقاع ما بعد الرافدين، بَعد أَسَاه الذّي ما فارقه في رحلتِه إلى الضّفة الأخرى، وما أفاده علم الآثار ولا المختبرات العلمية ولا الجامعات الدولية في تفاديه، ولا حالت دون أن يصبح فريسة لذاك الذي اعتبره في البدايات صيدا ثمينا.
وهكذا أراد الغرباوي أن تُكمِل شامتُه الحكايةَ وحدها، ولِيُوثِّق لثورةٍ تمّوزية ويُؤسِّس أحواشا إيغودانية تحت شعار الحرية والمساواة والإخاء، تفاديا للخوف من تدوين خياناتِ “أقيزول” وجَوْرِ “منزوه” وما يجري بقَبْوِ الأقنان وحيّ العبيد، وتحاشيا لاختلاط الأمر بين العارفين والمنجِّمين وقارئي الطّالع والوقوع في خُرُومِ الفَزَع.
وما بين تصريحات وتلميحات وترميزات يغوص عبد الإله رابحي مع السمك البلوري تحت الماء، ويطير مع الحَمَام الفضّي في السّماء، ليؤرِّخ لأماكن ومدن وشخوص أمازيغية حامت حول “إمارة إيغودان” لتعيد لها نصرها بأغنية الشَّفَق على الموت بصوت المُغنِّية والرَّاقصة “كيلوبترا”.
فهل سار عبد الإله رابحي بعمله السّردي هذا في اتجاه التحريض على ارتكاب جرائم المسّ بالأمن التاريخي والخيانة العظمى والسقوط في جوف النهر؟ أم أنه يوصي بالخروج من الوجود بعد أن تم الخروج من التاريخ منذ مدة، لإعادة تشكيل الكون وصياغة مقومات السعادة والانتصار؟
تتجوّل بنا رواية “الرقيم الأخير” لتفتح أعيننا على الملامح والمظاهر والملابس، ولتثير فينا الشّوق والتّطلع للتّعرف على ما ابيضّ منها واحمرّ وصفرّ، في ارتباط بمشاعر الطّيبة والغضب. فتتلوّن الأجساد بما اختلف بين الرّؤوس والخُفَّين، ويتبدّل مظهرُ الشموس بين البزوغ والغروب، ويتغيّر شكل ومآل الأقمار بين الظّهور والاختفاء. فتَلْتَبِسُ دلالاتُ المزج بين الألوان في لباس الجلباب والطربوش الوطني والخُفِّ يوم العيد.
أهي للتّخلّص من رفوفِ الخزائنِ القديمةِ المتكلِّسة على المُحَيَّا، ومن التّرسُّبات الجيولوجية الزَّاحفة نحو مجاري أماكن الاستحمام، ومن المفعول السحري لأصوات الرّواة في الحكايات؟ أم هي عنوانٌ لرقيبٍ مُطَّلِعٍ على ما تُكِنُّه الصّدور وقائمٍ على حفظ النّفوس ومُرَاعٍ لأحوال المُراقَبِين؟ رقيبٌ يُخرِج بين الفينة والأخرى من قمطرٍ أسفل الطاولة ريشةً بيضاءَ للتَّذكير بالصّفاء والنّقاء الفطري للكائن البشري، وقنِّينةَ حِبْرٍ أحمر للتّقويم والتّصحيح وتقدير الأفعال والأقوال، وورقةٍ صفراء للتّوثيق تجنُّبا للاجتهاد في البحث عن العِلَل.
أم أن الأمر يتعلق بدِيكٍ إفرنجي، بجسمه الأبيض حسب ما اقتضته الضرورة البيولوجية، وبعُرْفِهِ اللَّحمي البارز على الرأس، وبساقيه المُمتدَّتين المائلِ لونُهما إلى الاصفرار، نبش في التربة وحفر في الأرض وتذوّق ما لذّ وطاب بتَحَكُّم في الإيقاع اليومي وفق ساعتِه الاستيطانية البلهاء. وهو ما أشار إليه الكاتب حين قال: ” أحمرُ دمٍ للحياة، وأصفرُ امتقاعٍ للموت، وبينهما بياض لكن في ساحة الوغى بين الحياة والموت” ص: 19.
إلى مثل هذه المطبّات يجرّنا الراوي، ليخبرنا بأن ليس لنا إلاّ أن نقرأ بصمت، وألاَّ نلتفت يمينا أو يسارا، وأن نضع أنفسنا في قلب زوبعة موعودة يشتدّ فيها الصّدام وتتوافر حظوظ الجهل بالمسارات، وألاّ نُحسِن الظَّن بالمفهوم موافقةً أو مخالفةً، وألاَّ نفكر في المآلات، “أسئلة كثيرة حلَّقت به بعيدا، ولفّت الأصولَ في حيرة الفروع، وكثُر اللَّغط سرّا” ص: 108.ذاك هو الخيط الناظم لفضحِ ما لم يُقَل وكشفِ دلالاتِ غير المُصرَّح به لفظا أو قياسا أو مجازا.
دعونا نتّفق على خلق أساطير جديدة علَّنَا نعثُر على طقوسٍ مشتركة. فهكذا كان الخَلْق، وهكذا اقتضت مشيئة الرّاوي تشكيل الكون وتبريز “عاموش” لتَمْلَأ الجنبات بالحِكَم البابلية. حيث لا مفرّ من قيادة روحية في إطار مختبر الكمال الداخلي للأفراد. فالنّهر والزّمن لا يُتيحا من الفرص إلا ما كان من غوصٍ وانضمامٍ لخوضِ تجربة العيش كجزء من التيار. هكذا انساب حِبْرُ الكاتب دون أوراقِ وسخٍ ودون رقيعٍ يتخلّل فصولَ حَكْيِه، وكأنّه يُوثِّق للحظاتِ انبثاقٍ بتطريزٍ مُحكَم، وبعُمقٍ يساورُه حُلْمُ الامتدادِ الشّاسع والحذرِ اللاّزم من الآتي المضطرب.
وهكذا هي الأمور مع هذا الحكي المُمتِع، حيث “المغامرةُ أعقلُ من التَّهَوُّر.. والرِّحلةُ حكمةُ المصادفة.. وحقائقُ التّاريخِ لعبةُ الأقوياء…” ص: 141. فقد اتّسعت الحياة حتى لِمَن ضاقت بهم، لِتسمحَ بالسّفر بين الأحواش وخوضِ غمار تجربةٍ فيما تفرّع من خواطر بين طِيبَةٍ وقسوة وما الْتَبَسَ بين عقلٍ ووجدان. أهو ماضٍ مكلومٌ أم حاضرٌ مأزومٌ أم أفقٌ مهموم؟ هكذا نطقت الألواح، والعهدة على الرّاوي طبعا.
وقد كان لابد في حكاية الحَافَةِ هاته من إجادة التّعاطي مع أدوات الاشتغال، وكان من باب إعطاء الحكي حقَّه إتقانُ فنِّ استعمال التّخييل، وكان ممّا لا مفرّ منه إدراك معاني الانتقال من نسق إلى آخر لمتابعة خوض محنة المشيئة وأسرار الليلة الموعودة وحبائل العقيل الحكيم وجِراب نزيهة ووصايا عاموش وتنصيب منزوه وقصة زنوبا وأوسمان.
فهل قدّم لنا عبد الإله رابحي ما يكفي من مؤشّرات إحكام صنعة الاصطياد والفتك بقصص الفهم والتّأويل؟ وهل قام بحياكةٍ متقنة بين الهبوط إلى الأسفل والصعود إلى الأعلى ليُؤكِّد امتلاكه لمهارات تجسير علاقة النّص المحكي بسياق تشكيله في الحاضر وبخلفياته التاريخية وامتداداته المستقبلية؟
تراوح أمكنةُ رواية “الرقيم الأخير” ثباتَها بين فضاءات السهول والتلال والهضاب، لِتِتَّسِعَ الآفاقُ وتضيقَ المساحات بما يقع على الضِّفاف، وما يبعثه الشّلال من ضباب، وما تجريه الأقدار بين المجاري والأعماق في المَصَبَّات الأخيرة، حيث جوفُ النّهرِ مَرْقَدٌ أبدي للأحياء. وكذلك أمرُ زحمةِ الأحداث بالأحواش والبيوت والأسرّة، التي تتكثّفُ لِتُفجِّر وقائع وحوادث. فهل سارت رواية “الرقيم الأخير” بشخوصها في رحلة الفيض والبحث عن الملاذات الآمنة، أم أنها بقيت مرئية بقدر غير يسير من الضبابية والتشويش، عبر سفرٍ من ضفة إلى أخرى وانتظارٍ لبقية الحكاية؟
وعلى هَدْيِ صرامةِ إله الخِصب التي اقتضت سير النّظامِ من الأعالي إلى الأهالي، تأبى الرّواية إلا أن تُشيِّدَ القُبَّة الزّرقاء لترسيخ قيم التّطهير والتّدنيس، وتُعيِّنَ حارسةً لتعزيزِ قواعد النُّبلِ في تنفيذ أحكام المشيمة والمشيئة، وتُفرِّق مقاماتٍ لتوصيف ما استُحسِن من حدائق ولاحتواءِ معابد وحمامات وقاعاتِ ضحكٍ وسمرٍ وأحياءِ عبيدٍ وأقبيةِ أقنانٍ وزنازين، فاحت روائحها ـ الزّكية منها والكريهة ـ على ما جادت به مكنونات أرقمٍ ولقىً وأرقعةٍ وألواحٍ وتعويذات. لكن السؤال يبقى مُعلَّقا حول ما إذا انقشعت من بين ثناياها حقائقُ، أم أنّها ظلت منقوصة ومُتعثِّرة بفعل ما أصابها من خُرُوم.
وما الكتابةُ إن لم تكن تحريراً للأفكار من كهوف الدّماغ وتحرّراً من قيود الخوف والتّوجُّس والانكفاء؟ وكأني بعبد الإله رابحي في مأدبته الفنية هاته شاخص أمام “سالفادور دالي” بما لم يَكُنْ يَنْشُدْهُ من تسليةٍ وتشويقٍ فحسب، بل بما يستهوي القارئَ الباحثَ عن المعنى فيما يقرأ وعن الأفكار العميقة الّدفينة الكامنة وراء لوحاته أو المُبطَّنَة في حواشي تعبيراتِه وتركيباتِه.
ويبدو أن الرّاوي لم يكتف بإيقاع قرّائه في قلب شِراكه، بل هو لا يستقر على حال حتى يُسقِطهم في شرنقة نسيجه المرتبط بقصص السابقين واللاحقين، وحتى يُربك فهمَهم بما يُشبِه فوضى التّرميز لِتفادي الإحاطة بكل تفاصيل الخلق والتشكيل. لذلك اختار تقنية العود عبر الزمن لعرض وقائع حكيه، وكأنه يسجِّل حضوره بالانتقال بين الحاضر والماضي ذهابا وإيابا، فيما يُشبه تداخلا للزّمن وتعطيلا للتّرتيب والتّعاقب والتّسلسل الخطّي للسّرد، قد يصرف نظر القارئ في بعض الوضعيات عمّا تحويه من عمقٍ وتعقيد.
وعلى إيقاع ما يَحمله القارئ من كلمات وأشياء، ما أن يستدعيَ الماضي حتى ينتصب التّعجبُ كإجابة عن سؤال السجين الأبله الذي “تخلّى عن المستقبل ليعيش عَتَهَ الماضي!” ص: 137. وكأن تقنية الإبحار في العود ما أسعفت سوى في تعميق جراح البحث عمّا إن كانت الأرض تمشي على أكتافنا ونحن سكوتٌ في الصحو والمنام، أو أنّ الآلامَ وحدَها هي ما كانت أثقلَ من التُّراب. فمآلات الهروب إلى الخلف عادة ما تنتهي بالرجوع إلى الحاضر على أقدامٍ حافية حيث الموتُ في الانتظار؟
وهل تم إخبار “منزوه” و “عاموش” بما تَحَمَّلَه الحاضر من متاعب بسبب عيش أهلِه في “أحواش” وهم لا يشعروا بأيّة تفرقة؟ وما اختلف الوضعُ إلاّ بالرجوع إلى “المشيمة” و”المشيئة”! حيث الفرحُ الذي كان أقربَ من حبل الوريد أصبح بعيدا، وحيث كان الأجدرُ تفادي تذكّر وقائع الضّفة الأخرى، وحيث لم تكن هناك مبرراتٌ لإذاعة أخبار “انتشار رائحة الموت، وسياقة الأعناق إلى الجوف الشلالي” ص: 112.
فضاء حكي الدكتور عبد الإله رابحي يتّسع لسَعْيِ قوم وراء أمل مفقود، من بلاد الرافدين إلى ما دونها مما انحدرت إليه مياه النّهر، لتصب في أحواض لا متناهية. سَعْيٌ يتخلّله خوفٌ من موت، وأمل في العثور على خلود، وفشل متكرر، وعودة إلى وطن، وإدراك متأخر باستحالة تحقيق الأمل. تماما كما حصل مع ذاك المدعو “جلجامش” الذي بقي على عرشه غامضا في العلاقة بالعالم الأسفل والظروف الكئيبة وطرد المخلوقات المزعجة للآلهة.
غرائبيةُ مبدعنا تبدو مخاتلةً إلى حدٍّ كبير، فهي أقرب إلى جعلنا نخلط بين معاني الألوان ودلالات تشكيلها ومزجها، لنصير غرباء في انتمائنا. وحيث يحط مبدعنا الرِّحَالَ على “تَلٍّ يرتفع فيه منسوب المياه الجوفية” ص: 9، يبدو وكأنّه يَضَعُنا في فضاء يقبل الشَّغْل والفراغَ والجمع، أو يلقي بنا في بحر اللّغة التي أتقن توظيفَها في سَحْرِنا وإبهارنا.
فالشخوص كأحد أوجه القيم الدلالية والفنية في منتوجه الأدبي، ما عادت هي تلك المخلوقات في عالم الوقائع والمواقف المروية فقط، بقدر ما جسّدت الصّفات التي كانت محمولة للفاعلين من خلال الحكي. وبالتالي فدهاء تعامل الرّاوي مع أسماء الشخصيات ارتقى إلى مستوى جعلها تلعب دورا مهمّا في تطوير النص السّردي، سواء من حيث البناء أو الدلالة. فاسم “عُسِيّ” وُظِّف للتَّرجِّي في أمرٍ محبوب وللإشفاق في كلِّ مكروه، واسم “مارينا” يرمز دلاليا إلى الرّصيف أو الحوض الذي يأوي مراسيَ ولوازمَ القواربِ العابرة، واسم “نبيه” دلالة على الذكاء والدهاء ومخالطة كبراء القوم من الأشباه الأولين، واسم “عقيل” للإشارة إلى إدراك حقائق الأشياء وتمييزها ولَيِّ أرجلِ الخصومِ والإيقاعِ بهم في الأرض، واسم “فطين” كرمزٍ للثّبات والحِذق والمهارة والتّفهم والتّبصر وبُعد النَّظر، واسم “نزيهة” كفعلٍ لإبعادِ الدَّواب عن الماءِ وإقامةِ تباعدٍ عن كلِّ مكروهٍ وقبيحٍ وابتعادٍ عن الزَّيْف وفسادِ الهواء والأجواء.
هذا الترميز في ارتباط بباقي عناصر السّرد، يعتبر من مقومات صناعة العمل الأدبي، ويصل مداه مع اختيار اسم “منزوه” المشتق من فعل “نزا” والدَّال تارة على الطموح إلى بلوغ الشيء، وتارة على الثورة والتحرك، وتارات أخرى على المنافسة والمنازعة والتَّطاول على أراضي وممتلكات الغير. ليُصبح التَّمَلُّك اللُّغوي أداةً فنّيةً لتحديدِ الشَّخصيات.
فهل تمكّن من خلقِ ثنائيةٍ دلاليةٍ تمزج بين الشّخصيات الأسطورية والواقعية ذاك التّمازج الذي شكَّل للأدب المعاصر مظاهر الحداثة من بنية ودلالة ورؤية، متجاوزا بذلك الأنماط السردية التقليدية؟ هكذا اختار الرّاوي أن يُلْقِيَ بنا على سطحِ بحرٍ يتعاظم تردُّدُ أمواجِه، بسبب لوحٍ مخرومٍ أو فهمٍ اعْتَوَرَتْهُ ثقوبٌ وأصابته شقوقٌ وألمَّت به نوائب تأويل. وما بين تَسَامٍ وتساقطٍ وارتقاءٍ واندحارٍ وتسلّطٍ وخنوعٍ فَعَلَت القطائعُ فِعْلَها بما استكشفته في مَعِينِ الرّوح والجسد والخرافة والعلم والخلود والفناء.
وكأنّي به يقودُ معركةَ إعادةِ تشكيلِ الكون بعَقْدِ ندوةٍ للأقدار ومعالجة قضايا بَرَكَةِ الأضداد والحِكَم البابلية في ضوء تفاعُلِها مع أدوار الدّمعةِ الصفراء والقُرْصِ المضيء، في أفق استشراف اللّيلة الموعودةِ على أعتابِ القبّة الزّرقاء.
يخوض الكاتب غمار تحقيقِ قدر كبير من التّخييل اللّغوي، كمُكَمِّلٍ مهمٍّ لا يستقيم الفهمُ والتّأويل إلاّ به، في جوٍّ من اللّعب المُساعِد على ملءِ فراغاتِ الخُرومِ المبتوتةِ في ثنايا النّص المحكي. وهكذا، ففي عوالم التَّخييلِ بخصوصِ إعادةِ تشكيلِ الكون، ومع قدرٍ من الضّيق والاتّساع في التّأويل أو الارتقاء بالذِّهن إلى أقصى مراتبه، يُحْظَرُ السّقوطُ في مطبّ القياس بين الأشباه والنظائر. فالمُشَابِهُ يكون في الذّات والصّفات، والمُنَاظِرُ لا حضور له إلاّ في الأشكال والأفعال والأقوال. وما عَطْفُ النَّظَائِرِ على الأشباهِ إلاّ من باب عطفِ التَّأويل المُجانِب للخلق عند التّكوين كخطيئةٍ غيرِ قابلةٍ للغُفران.
فهل نُصدِّقُ الأساطيرَ التي تَئِنُّ تحت صفيرِ ريحٍ فارَّةٍ من احتراقِ أنغامِ التَّجْوِيفَةِ اللَّولبية و “تصاعدِ اللَّحن الذي يمرُّ من مقام إلى مقام أعلى، ويرفعُ الأجسادَ إلى المقاماتِ المرئية” ص: 86، أم نَحْلُبُ نَهْدَ الأوجاعِ لنكون “عَيْنَ منزوه على السَّهل التي لا تنام” ص: 88، أم “نجني ألمَ المخالبِ ووَخْزَ السِّلاء ومطاعنَ الحجرِ المسنونِ وهاويةَ جوفِ النَّهر” ص: 89 ؟
أن يصيرَ الفردُ مجرَّدَ حَدْسٍ وظُنُونٍ تدفع به إلى البحثِ عن يقين، فما عليه سوى أن ينمِّيَ شاعريتَه تجاه الحياةِ لكسبِ اللُّعبة. فالأحوالُ سيّئة، والقلبُ منقبض، والعيشُ مليء بالفقر، وليس بالنَّاس شيء سليم، بل وليس هناك ما أو من يمكن الاستناد عليه. وللوصول ينبغي تحمّلُ الكثير والكثير، فما كان للنّور أن يضيءَ لولا اكتواءُ الإنسانِ من الزّمن، إذ يكفي أن يرى وجودَه في مرآة ذاتِه ليبدوَ له الوطنُ قمراً بعينين مُجرَّدتين. هكذا ربّما ينفلت المبدعُ من تعقُّد العلاقةِ بين الذَّاكرة والتَّخيُّل، إذ لا مفرّ للقارئ من ملازمةِ التّخييل فيما يتذكّرُه الرّاوي منفصلاً كان أو متّصلاً بالواقعِ والإدماجِ الفنِّي.
في رواية “الرقيم الأخير” يستحيل الاكتفاءُ بمنطوقِ القولِ والحكي، ولا يستقيم الفهمُ والاستيعابُ إلاّ بالبحث عن دلالات المسكوت عنه، الذي لم يكن له مذاقُ البهارات التي تُخفي رداءة الأطعمة، بقدر ما كان له طعمُ شَغَفِ التّعرُّفِ على ذاك المُتَخَفِّي الذي لو عُلِم لَتَغيَّرَ فهمُ معمارِ السَّردِ ومنطقُه. فإلآمَ وصلنا اليوم؟ هذا هو السؤال الذي لا زال مطروحا منذ لاحظ “نيتشه” أنّ قطعةَ العقلِ الصّغيرة في طريقِها إلى الضّياع، وهي في حالة دفاعٍ مستميتٍ عن الذّات وصراعٍ من أجل البقاء، في ظلّ تاريخٍ بشري مُفْرِطٍ في التَّهرُّب من الدِّماغِ صوبَ القلبِ وما دونَه، وفي غضِّ الطّرف عن مشاهد الزّيف، وفي عدم اندفاع العقل في اتجاه الشّك والتّفكير اللّذين ما عاد البشر يُطِيقُهُما.
من الصعب العثور على ما كنا ننشده، لكن ما أيسر التّخلي عن الجمال والصياغة الفنية للحياة، والتوجه رأسا نحو التَّحوُّل إلى تمثُّل روحي للحاجة والرغبة والطموح، بدل اللهاث وراء أصالة أو الانقياد لموضة ومتطلبات سوق. فما كنا لنعير اللغة كثير اهتمام في هذه القراءة، لولا كونها اختيارا أساسيا في بناء الرّاوي لصرحه السّردي. فهي مقوم ذو أولوية خاصة في تشكيل الوعي بوقائع وأحداث الحكي، وفي استيعاب تموجات الانتقال بين تلك الطفرات المُتعدِّدة في الأمكنة والأزمنة، وفي إحكام صنعة قيادة الفهم عبر منعرجات المسير المتنوعة في طبيعة وشكل مستويات الارتقاء والاندحار الحاصلة أو المفترضة للشخوص، سواء في العلاقة بذواتها أو محيطها، أو في الارتباط بحدس المعقول من العبارات والتراكيب والصيغ والتقاط أنفاس الانفعال مع ما تثيره الأسئلة والتعجبات والوضعيات.
فهل يعقل أن يعقد القارئ العزم على مواصلة المسير، وهو يطلع في السطر الأول من هذا العمل الإبداعي على ذاك التلميح بأن الرواية ستنتهي بتلك الأسطر غير واضحة المغزى؟ وهل يمكن فعلا التحقق من انسجامها مع سياق أحداث الحكي، بعد أن ازدادت بدون مقدمات، ومشت على أرجل عبارات غير مفهومة، وأمعنت النظر فلم تنل سوى حظها الوفير من تلك النقاط السوداء التي أسماها الرّاوي خروما؟ لهذا التمهيد الذكي السابق عن استهلال الحكي دلالات أكبر وأعمق من أن نوجزها في عبارة.
ففي رواية “الرقيم الأخير”، ما كان للاختناق تحت الركام أن يُدرك سر تَحَمُّلِه إلا بتقفّي آثار ما أُحدِث من ثقوب وشقوق في عوالم هذا العمل المحكي، الذي أبدع صاحبُه في توصيف ما قام من انكسار في الخواطر وانقطاع للحبال وتسلط بالظلم والحمق وإهلاك وإفناء للأقوام. وهو يتناول أسباب النزول، لم يدخر الراوي جهدا في الوقوف على نقص في الحديث بين الشخوص إلا ما اقتضته الضرورة السردية، وعلى انحراف في السبل إلا ما تطلبته شروط الاختلاف بين الخاطر الملعون والخاطر الطيب، ليخلص بنا إلى تمكُّن الوباء من استئصال أهالي الأحواش إلا من تمكّن من الفرار بجلده.
فالقوّةُ إذا، بارزةٌ ومرئيةٌ وغيرُ مُتَعَيَّنَة، وهي صانعةُ وهمِ السُّلطة الكليّة، وهي الدّافعُ إلى ضبطِ المرءِ سلوكَه ليصبح مطيعاً ولاجماً لتفكيره، تماما كما وصف ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة”.
الرقيم الأخير | 2022 | الناشر: دار القلم العربي للنشر والتوزيع | عدد الصفحات 272 |
“كيف تحملت هذه الألواح آلاف السنين في جوف الباطن دون أن يصدر عنها أنين الإختناق تحت الركام. كيف لم تستغث وهي التي تعاقبت عليها قرون وقرون, وتحاشتها آذان وآذان…”