- الإعلانات -
لا يستطيع المرء التفسير حتى لنفسه، لكثرة شجاره مع الرغبة وانهزامه أمامها في الأخير. ففي إحدى توصيفات الروائي لمدخل فندق دعارة مقنّع يخبرنا الراوي بقوله: “كانت صالة الاستقبال تفوح برائحة الجنس” الصفحة 15. وفي وصفه للمتطرفين الشباب المتدينين يقول: “اعتادوا بعد الصلاة أن يقفوا تحت عمود الكهرباء في رأس الحي يتناقشون أمور الدين والسياسة والجهاد” الصفحة 52. لذلك فهو يخلص إلى ما يفيد: “أنت الآن في بئر عميق وكفى، ومعرفة كيف سقطت في هذا البئر لن تخرجك منه” 48.
فحين تتيبّس الأحاسيس وتجفّ العواطف وتسود حالات من النزاع والتّمرد المُفضِية إلى مشاكل اجتماعية وقيمية، وتتوتر التفاعلات بين الأفراد والجماعات، وتضعف العلاقات الإنسانية، وتترهل المؤسسات والإطارات وتتصدع، وتصعب التنشئة على التواصل ومدّ الجسور، ويصبح الاعتقاد مُتخشِّبا والإيمان متصلِّبا، فتتّسع الشروخ ويسود التعصب ويقع ما لم يكن في الحسبان.
وقد لا يكون الإنسان تحت تأثير مخدر قوي، بل فقط يمكنه أن يكون تحت تأثير شريط أحزانه الذي يمر أمام عينيه مليئا بالمذلة والإهانة والاستغلال والخوف وما يجثم على الصدر. لذلك، قد يبحث القارئ عن لغز للتسلية، وقد يقتفي آثار نقد للمجتمع وفضح لتناقضاته، وقد يشق طريقا نحو التعرف على رؤية الراوي للعالم، لكن ذاك التأثر والتأثير المتبادل بين مقومات الرواية البوليسية وآليات الحكي المعتمدة في الرواية بشكل عام يثبت قدرة الروائي عبد الإله الحمدوشي على تجديد آليات خوضه لغمار الإبداع من زاوية تخصصه.
فلِرَمْزِيةِ روايته “الدَّم اليابس” دلالات في استخدام العبارات، أقصاها التعبير عن مشاعر ومفاهيم وأفكار كانت أعمق بكثير من تلك المعاني الحرفية للكلمات، بما تحمله من شحنات مجازية قد تحيل إلى ما لم يتسع صدر اللغة ذاته لِمَعَانٍ وسياقاتٍ قد تتعدد وتختلف. وهنا يكمن دور الإبداع في تفجير ما بثنايا اللغة من دَرَّات الثراء والجمال في التعبير عن الوقائع والمواقف.
فأن تجف المآقي، وتنشف الجفون، وتخلو النفوس، وتتصحر المشاعر، وتتحجر القلوب، وتشحت الدموع، فذاك مما يجعل السماء تتلبد والسحب تتراكم والغيوم تتجمع. أما أن يَتَيَبَّسَ الدَّمُ فتلك إشارة للقارئ وتنبيه له للتدقيق في علاقته بالنص، من أجل إرساء قاعدة تواصل تتميز باليقظة والتفطن لكل اتصال مفيد فيما بينه وبين تفاصيل الحكي في هذه الرواية.
قد تتلاشى الكلمات، وتتبعثر الحروف، وتتناثر القوافي، وهو يقف على ما تلبّد في سماء الفضاءات والأمكنة، وتكهرب من أجواء وعلاقات بين الشخوص، واشتاقت إليه القلوب من فرص إعادة ترتيب المواقيت والأزمنة، واضطربت له نبضات العيش المشترك، واستعرت له أنفاس القراءة المشوبة بكل أشكال وألوان القلق وهي تلهث وراء فصل أو وصل بين أحداث وحالاتِ وجودٍ وأسماء وضمائر ومشاعر وردود أفعال. ذاك ما يوحي به قول الروائي بالصفحة “كيف الخروج من هذا الفقر المريع وهذه الحياة الذليلة الحقيرة” الصفحة 68.
كثيرة هي الأعمال الأدبية الحافلة بالجرائم والمطاردات وتقفي آثار المجرمين، لكن أن تكون مستمتعا بما ترصده الرواية البوليسية من تحولات اجتماعية، فوق ما هي مهتمة به من جريمة وضحية ومجرم ومحقق، فذاك ما يمدّ الحكي بعناصر التميز في رواية “الدَم اليابس” ليجعله مادة مسايرة لما يعرفه المجتمع من تغيرات في بناه الثقافية والفكرية.
ففي زهرة الصفاء تختزل رمزية البهجة والجمال ولون النقاء وطعم الفرح والتفاؤل، تماما كحال الأدب في علاقته بعشق المغامرة واعتلاء صهوة المجهول وتسليط الضوء على الأحزان الشاردة والتقليب في ثنايا الأحلام والكوابيس. وكأن القارئَ حقيقةٌ والكتّابَ والمبدعين أوهامٌ.
يكاد لا يحمل النّاس على مدينة الدار البيضاء شيئا يذكر غير فكرة أنها “غول” يبلع زواره، مثلها في ذلك مثل مدينة طنجة، وعلى هذا الأساس فأحلامهم بداخلها مضطربة، إذ على الرغم من ضجيجها بالنهار فلا افتراق إلا بالسقوط في حافة الصمت الليلي، حيث الماضي والحاضر مُشوَّشان والمستقبل بلا أفق، وحيث الناس تغيب عن نفسها فتنفصل عن المحيط، ولا تدخل أدغال الغابة إلا مع اقتراب موعد الصمت الرهيب.
فالروايات عادة ليست كما ينقلها غيرنا من القراء، بل هي عمق وخلاصات ما نتوصل إليه بقراءتنا نحن وبعقولنا وتحليلنا لعوالمها وما تؤثثه من أمكنة وأزمنة وشخوص ووقائع وأحداث. والقارئ كذاك الذي يغوص في بحر هائج ويستحم وسط أمواج عاتية ويبحث عن بوصلة في ظل ما تناثر من رذاذ وضباب يشعره بالغرابة والكآبة ويدخله في معمعان حروب هذا العالم الذي يصعب أن يكون له، بفعل تشظي الضغائن في كل زمان ومكان، وليكون الإنسان هو خرابها وويلها في نهاية المطاف، لكن بطعم التَّدَيُّن هذه المرة.
وبقدر ما له من ارتباط بكل ما هو شهواني في هذه الحياة، وبما يسمح بإطلالات للجرأة والإثارة كما هو الأمر بالنسبة للموضة التي تهدف إلى لفت النظر والأسر والإلهام، وكما هو الشأن بالنسبة لإثارة الرغبة بوصف شفاه العشاق واحمرار الخدود، فالدّم كظلٍّ عميق له من قوة الرمزية ما يجعله دالا على ما تناقض من مشاعر ومفاهيم الحب والعاطفة من جهة والعنف والموت من جهة أخرى، ليمتدَّ فيُعبِّر حينا على صلته بالقوة الواهبة للحياة، وحينا على المحبة والتضحية من أجل الإنسانية، وأحيانا أخرى على العنف والموت والدمار.
وهو في رواية “الدَّم اليابس” لا يخرج عن سياق نسج صور درامية قوية ذات علاقة بكل تلك المشاعر ومآلاتها، في بَوْتَقَةِ خلقٍ للشّعور بالقوة والعاطفة في نفس الوقت. مع التأكيد طبعا على وحشية مشهد الجريمة المزدوجة المرتكبة والخطر الذي واجه الشخوص المعنية قبل وقوعها.
هكذا بدا لي الأمر وأنا غارق في قراءة رواية “الدّم اليابس” لمؤلفها عبد الإله الحمدوشي، وبهذا الانطباع خرجت من هذه القراءة وأنا أتساءل: هل استطاع الراوي الكشف عن الوجه الحقيقي لإنسان الألفية الثالثة بعوالم الدار البيضاء من خلال روايته هاته؟ وهل كانت له القدرة على كشف النفاق والزيف وفضح ادعاء المكانة والحصانة الاجتماعية والسياسية؟ وهل تمكن من إبراز ذاك الخواء الثقافي والأخلاقي والديني الفادح الذي يتخفى في أعماق شخوص الرواية؟ وهل وصل إلى مبتغى تشريح الاستغلال المتحايل للدين والمكانة الاجتماعية لتحقيق المصالح الشخصية والسقوط في تناقضات ومفارقات العيش في هذا الواقع؟ وهل عكس بعد ذلك تلك الصراعات الداخلية التي تخترق الشخوص وتلك التناقضات الموجودة داخل المجتمع والتي تسري في ثنايا الأحياء والأزقة لتدخل إلى قلب البيوت والأسر؟
وقد صدق بالفعل من اعتبر أن أجمل القراء هم من تذوقوا في الروايات طعم الهزائم والمعاناة والفقد، وهم من نالوا شرف العثور على طريق الخروج من البراثين، وهم من حازوا كميات لا بأس بها من فهم الحياة وتقديرها وامتلكوا حساسية تجاه الرحمة والمحبة والاهتمام. خاصة وأن تناول الجريمة إلى جانب الصراعات الاجتماعية والأخلاقية وخلق ديناميات فيما بين الشخوص والأمكنة، وعرض ذلك بصورة نقدية لواقع مجتمع بالمتناقض فيه من الطموح والحب والغيرة والخيانة، فيه من الدلالات ما يحيل إلى امتلاك ناصية العمل الإبداعي الذي يروم خلق أشكال متنوعة من تفاعل الشخصيات فيما بينها على قاعدة التضارب في الحياة من حيث الدين والسياسة والفقر والثراء والحب والكراهية، الشيء الذي جعل الرواية غنية بالمواضيع الخاضعة في سياقنا العام للتحليل والنقاش.
فهل يمكن اعتبار رواية “الدّم اليابس” من قبيل ذلك النص الذي يجمع بين الجمالية الأدبية والنقد الاجتماعي الحاد المتجلي في القدرة على تصوير الواقع بتناقضاته وتحدياته؟
إن ما يمكن تأكيده للقارئ من خلال متابعة أحداث تلك الجريمة المزدوجة بشكل متسلسل وسلس، هو أن للكاتب دربة وتمكّن من شدّ مختلف الوقائع إلى بعضها وحسن تدبير إيقاع الانتقال من حدث إلى آخر والتعريف بالشخصيات حسب المقامات وضبط الأمكنة والأزمنة وربطها ببعضها، بالشكل الذي ينم عن إحكام للصنعة وجودة في التفصيل والخياطة والتطريز.
وبما أن اللون الأحمر الدموي واضح للغاية ويجدب الانتباه ويتطلب الاستجابة، فهل يمكن للقارئ الذي يرتدي رداء هذه الرواية المفعمة بالدلالات الرمزية أن يشعر بالثقة والقوة أم بالخوف والتهديد أم بالجوع والإثارة أم بالرغبة في التعبير والتواصل أم بالاستكانة للخرافة والدين؟ وتلك هي قوة رمزية اللون الأحمر الدموي حين يعمد المبدع إلى استخدامه في الفن والأدب، كما دأب على ذلك الكثير من الكتاب والمؤلفين لإثارة تلك المشاعر القوية من عاطفة وحب وعنف لنقل رسائل متنوعة لجهات متعددة بخصوص مأساوية المآلات وشغف القضايا المعروضة.
وبعيدا عن تلك الأشكال من التذمر والتحسر على ما ضاع عبر الزمن من لقاءات وجلسات يصنع خلالها الكتّاب والمبدعون أحلاما لمجتمعهم، وعلى غير هدي اللهث وراء الإجهاز على ما تبقى من أمل في تغيير الأحوال، يمكن جزم التساؤل بأنّ مَنْ أمتعته فنونُ القولِ كيف لقومٍ يُبعِدوه؟ فعلاقة القارئ بالأدب وأجناسه ليست هي تلك التي تربط الناس بإذلال الواقع، بقدر ما هي نوع من التشبث بالموقف الثابت من إغراء الحقائق الباردة ومن مناطق جذب تقديس الأفكار والأفراد. إذ يكفي أن ينخرط القارئ في أحداث الرواية ويتفاعل مع شخوصها ويتحرك في فضاءاتها ويربي إحساسا بأماكنها، حتى يستشعر معاني الأشياء وجمال الاختلاف وطعم القبول بالتغير وعطور التجاوز والتفهم والتسامح…
فمع الروائي عبد الإله الحمدوشي يحس القارئ بكونه منجذبا لبدايات تشكل الصراع، ومستثارا بالأحداث المبدئية في الرواية، ومتشوقا ومتطلعا للوصول إلى نهاية الحبكة، بطيه للمسافات وقلبه للصفحات وتسلقه سلم تعقد الأحداث وصولا إلى الذروة والتحول والهبوط والانفراج بمعرفة الجاني المبحوث عنه طيلة مسار التشويق المقطوع من البداية حتى النهاية. وبفعل مهارة الإتقان والبراعة في اعتماد أسلوب الرواية بطريقة التسلسل التاريخي المستقيم والسهل للغاية من البداية إلى النهاية، قد لا يدرك القارئ في رواية “الدّم اليابس”” أين ومتى وظّف الراوي تقنية الاسترجاع من أجل حبك وإحكام الربط بين الأمكنة والشخوص والأحداث، وهو يتبين بوضوح في استدعاء فصول للتعريف بشخوص الرواية من قبيل الضحية “نزهة” وعميد الشرطة “الحنش” وغيرهما. خاصة وأنه لعب بمهارة على وتر تلك العلاقة المعقدة بين الفرد والسلطة، وكيف يمكن للانتماء إلى الشرطة أن يشكل هوية ممسوخة ومكانة متعالية ضمن النسيج الاجتماعي.
وهي طبعا الطريقة التي اختارها الروائي عبد الإله الحمدوشي لبناء حبكته، بما يسعفه من القيام بجذب الانتباه إلى مجموعة من الأشياء التي لا ينبغي أن تغيب عن ملاحظة القارئ، والتي تُحدِث فيه أثرا مختلفا من حيث التوتر وتوقع مآلات الأحداث والوقائع ومعرفة النهاية المحتمل الوصول إليها، وذاك بالضبط ما يشدّ القارئ إلى الرواية بتفادي القراءة بسرعة والشرود وعدم الاهتمام ببعض التفاصيل وتجنّب كل عادات القراءة المحبطة. وذلك في تناول بارع لتفاصيل الحياة الاجتماعية ببعض فضاءات المدن الكبرى، وانكباب عميق على التناقضات والاختلالات الاجتماعية والعاطفية في المجتمع المغربي والتطرق للخيانات الزوجية والنفاق الاجتماعي وغيرهما.
للتعبير الإنساني عن العواطف والأفكار والخواطر والهواجس كينونتُه وصوتُه وجمهورُه. فما وقف على مسرح الحياة ولا في اهتمامات القراء وعموم المتلقين بتلك الأساليب الكتابية الراقية من نثر منظوم وشعر موزون، إلا لتُفتَح للإنسان أبوابُ ونوافذُ التعبير لإعادة صياغة الواقع ونسج صور له في مخيال الكتّاب. فالأدب ليس كشفا ولا فضحا للمستور ولا تواطؤا ولا تسترا على خفايا وأسرار، بقدر ما هو لغة احترام وتدوين لما نبتغيه من تشكيل لرؤية الحياة والناس في مرايانا الداخلية، ومن توفير شروط عيش الأشجان في سرد الرواة وسفر الذاكرات والحنين عبر المحكيات.
ورواية “الدَّم اليابس” حافظت على تماسكها، وجعلت كل عناصرها متظافرة من أجل تحقيق المتعة التي لا تفارق القارئ طوال مسار قراءته، بحيث بُنِيَت على السببية في الربط بين الوقائع والأحداث وكذا بين الشخوص والأمكنة، وأقيمت على قدر كبير من إحكام بنائها وواقعيتها وسيطرة النشاطات الإنسانية فيها بما يساعد على المزيد من جذب القارئ وتحفيزه على الاستزادة منها. وهي بذلك استطاعت اللعب على عمق الإنسانية والمجتمع بكل تعقيداتهما من خلال قصة مليئة بالجرائم والعواطف والنفاق الاجتماعي.
فعوالم رواية “الدّم اليابس” تتوزع بين عمارات شاهقة، وفيلات فخمة وفاخرة، وملاه شهيرة، وعلب ليل، ومراقص متهتكة، وحانات شعبية، ومواخير تبقى مفتوحة حتى الصباح، وشوارع تتحول في الليل إلى معارض داعرة، وسوق جنسي يعقد كل ليلة، وفنادق دعارة مقنعة، ودور صفيح حيث “الأسر تتكدس في العلب ليلا من أجل النوم، أما في النهار فأغلب الأنشطة المنزلية تقام بباب البيوت” الصفحة 51، وعمارة قديمة شبه متهدمة وهي بالضبط مكان وقوع الجريمة، إذ يصف الراوي منازلها بقوله: ” المنزل الذي صمم ليحوي أسرة واحدة قسم إلى أربعة منازل تشبه جحر الفئران بدون نوافذ ولا مطبخ أو مرافق صحية حقيقية” الصفحة 51. بالإضافة إلى ولاية الأمن، والكوميسارية، والقبو القذر. حيث تجري وقائع وأحداث هذا الحكي، وحيث يتشكل الفضاء العام لنسج خيوط الجريمة وأسرار الليلة الفاجعة وقصة قتل سفيان لكل من نزهة “عاهرة” وسعيد “عامل مصنع”.
أما الشخوص، فبقدر ما يستوقف القارئ طيلة مسار الحكي أولئك الشباب المهمشين بدور الصفيح والمعطلين الموزعين بين خيارات الانحراف الأخلاقي بصالونات الحلاقة وكونطوارات الحانات وطاولاتها والعلب الليلية وغيرها، وبين اعتناق الدّين في صور المغالاة والتطرف والعنف بمسجد الحي وأزقته، بقدر ما يقف على موظفات وموظفين متوسطين يقبلون على عوالم المجون والدعارة، وشبان شواذ ومخنثين، وعاهرات ومُخدَّرين ومدمني الخيانة الزوجية ومهربي وبائعي المخدرات، ورجال شرطة مرتشين يقتاتون وينتعشون في هذه الأجواء المشحونة بالخروج على القانون، إذ “كل المرافق الليلية من بارات ومراقص ودور دعارة تدفع إتاوات للبوليس من أجل التستر على أعمالها” الصفحة 36.
وطبعا دون إغفال أن الرواية وإن كانت محسوبة على صنف الرواية البوليسية بمقوماتها وخصائصها المتعارف عليها في هذا المجال، فقد بُنيت حول قضايا أكثر تعقيدا من الموضوع الأحادي الذي هو في نهاية المطاف الجريمة المزدوجة. وكأننا نقف عند حدود التماس مع حبكة متعددة الأبعاد ذات خطوط متشابكة، تتطلب فصلَها عن الحبكة الرئيسية بهدف الوقوف عندها وتحليلها.
وما الرواية إن لم تكن محطة جمال يومية يفتح عليها القراء أعينهم كل لحظة أتاحت لهم فتح كتاب؟ فالإدمان على الرواية لم يكن يوما سقوطا في المثالية المفرطة، ولا اعتقادا جازما بمعرفة الحقيقة التي تُقرَّب إلى الناس، بل هو بكل بساطة ما يُبعِد عن أولئك الذين يكافئون من يعمل على تخديرهم بالأوهام والوعود الكاذبة وبرحلات خيال مزيف ومزخرف يضع الناس خارج نطاق المشترك.
وإذا كان اللون الأحمر الدموي شائعا في اختيار ملابس النبلاء في العصور الوسطى وينظر إليه كرمز للقوة والثروة، فهل كانت رواية “الدّم اليابس” تؤرخ لارتباط هذا اللون بالتمرد والثقافة المضادة في القرن العشرين، أم لصلته بدموية التَّدَيُنِ كما تبدى في القرن الواحد والعشرين؟